وداعا ممدوح نوفل
بقلم بلقيس حميد حسن في 27/07/2006
في زمن الحاجة لقادة عقلاء، يرحل عنا الإنسان الكبير والقائد الفلسطيني ممدوح نوفل، جاء خبر رحيله لي فجيعة في زمن الفجائع اليومية، فجيعة قرأتها على يد الكاتب والصحفي خير الله خير الله، لم أتمالك دموعي وأنا أتذكر زمن الحلم بالحرية الكبرى والإنعتاق من كل ما هو ضد الإنسانية وتلقائية الحياة،الحلم العربي الذي يذبح يوميا على أيد قادة مجانين أو مؤدلجين بتعصب قرون مضت..
ممدوح نوفل الإنسان الذي تعرفت عليه في بيروت الحبيبة عام 1979، وفي مكاتب الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حينما كان هو قائد قواتها وكان مسؤولا مباشرا عن قسم التوجيه المعنوي في القوات المسلحة الذي كنت فيه مسؤولة عن الشؤون الاجتماعية وشؤون الجرحى، آه لتلك الأيام الجميلة، يوم كانت أحلامنا لم تحطم، وأنفسنا تنتظر ثمار التمرد والثورة على كل ما هو بال ولا أنساني، ويوم كان الموت يطاردنا من كل جهة بأيد الصداميين حيث أغلقت أموال البترول العراقي علينا جميع الأبواب، لكن أبواب المقاومة الفلسطينية واللبنانية وحدها كانت قد فتحت لنا على مصراعيها، وهي أولى الأبواب التي استقبلتنا بقلوب كبيرة، كان القائد ممدوح نوفل شخصية فذة أشبه ما تكونه شخصية أبطال الأساطير، كله حب للوطن والإنسانية، واثقا من انتصار الحق، سائرا صوب النور والحقيقة، كان شخصية تفرض عليك احترامها والتأثر بها من أول لقاء، مرحا، متواضعا، شهما وشريفا، أتذكر حينما كنا نجتمع، كان يسألني- وأنا في بداية العشرينات من عمري- عن رأيي في كل ما قاله بالاجتماع، فيخجلني تواضعه، ثم يؤكد على ضرورة سماع رأيي قائلا :
يا رفيقة إحسان – ذاك كان اسمي الحركي – إن رأيك مهم جدا فاليسار العراقي له خبرة وباع طويل بالعمل السياسي اكثر منا، فظروف مواجهتنا العدو فرضت علينا العسكرية وحمل السلاح، ثم يضيف مبتسما بطيبة :
وجودك بالاجتماع يا رفيقة يخفف من عسكرة قراراتنا ويضيف مسحة حضارية للاجتماع فالمرأة الواعية دليل حضارة..
كنت مأخوذة بأخلاقه وحكمته بالقرارات، وجديته ساعة الجد، وكان تواضعه واحترامه للمرأة يدعوني لرؤيته ملاكا أو نبيا في زمن لا أنبياء به بعد، حتى صرت أرى فيه شخصية جيفارا أحيانا، ومهاتما غاندي أحيانا أخرى، وأشبهه بمن تأثرت بهم من الأبطال الذين مروا على ذاكرتي بكتب التاريخ، فدعاني هذا إلى الشعور بالمسؤولية إزاء كل الفلسطينيين الذين عملت معهم في الجبهة الديمقراطية، أحببتهم كأهلي كما اعتبروني واحدة منهم، وأدخلوني قلوبهم وبيوتهم، كان الراحل قائدا يعطينا قوة المثل، المثل القدوة، فتأثرت بخصاله وسأبقى ممتنة له بذلك ما حييت..
كانت إنسانيته وحبه للضعفاء واهتمامه بالجرحى ونبله يذهلني، يسأل عن حالة كل جريح وبالاسم، يسأل عن عائلات الشهداء، ويطلب التقارير عن زياراتي لهم ويكاد يشترك في حلول المعضلات، يسأل عن كل كبيرة وصغيرة تخص راحة الضعفاء والمحتاجين للوقوف معهم، كان أبا كبيرا يستحق القيادة بجدارة.
وفي خضم كل هذا كانت دماثته ولطفه حاضرة، فهو سريع البديهية حاضر النكتة، ماذا سأتذكر، كثيرة هي المواقف الجميلة التي رأيتها فيه، أتذكر كلماته، أتذكر روحه الطيبة، أتذكر حبه للجميع، أتذكر مواقفه المبنية على الحكمة والإنسانية، أتذكر استقامته وتقديسه للوطن وللقضية الفلسطينية واستعداده للبذل في سبيلها بكل شيء..
وللوفاء أقول أن جميع العراقيين الذين عملوا بالجبهة الديمقراطية منذ نهاية السبعينات حتى خروج المقاومة الفلسطينية إلى تونس عام 1982، ممتنون للراحل ويحملون له كل محبة وذكرى عطرة ودموع صداقة بالرحيل، لقد تبادلت مع الكثير منهم تلفونات في أنحاء مختلفة من العالم لننقل حزننا بفقيدنا، تذكرنا مواقفه النبيلة وكأن لسان حالنا اليوم يقول لفقيدنا بيت شعر لشاعر عربي قالها امتنانا لذي فضل :
ولو كان لي في كل منبت شعرة . . . لسانا يقول الشكر كنت مقصرا
آه تبا للمرض الذي تجرأ عليك أيها الرائع، ألا تبا للموت الذي تطاول على ابتسامتك وإيمانك بالإنسان، تبا للموت الذي اختطفك في وقت يحتاجك به أبناء فلسطين التي تُدك بالصواريخ والطائرات يوميا، آه كم تحتاجك فلسطين اليوم أيها القائد الفذ، نحتاجك كعرب، نحتاج أفكارك النيرة، المؤمنة بالإنسان، أفكارك المليئة بالحب للبشرية، أفكارك البيضاء الناصعة في رؤيتها للحقائق، الموضوعية في دراستها الماضي والحاضر، أفكارك التي تؤكد على تحرر العقل البشري من أوهام القرون السحيقة، وهذه هي التي نحتاجها لتبني الإنسان العربي بزمن الظلمة والعودة لعتيق الخرافات والتعصب الذي ملأ حياتنا عنفا ودمارا..
أيها البطل الخالد ستبقى مبادئك الإنسانية العظيمة في الحفظ والصون أبدا، وستبقى كلماتك بالاهتمام بالضعاف من الناس ترن في آذاننا دوما، وسيبقى صوت الحكمة والعقل موجودا عند من تأثروا بك وأحبوك..
وداعا أيها الراحل مبكرا، ولك الخلود أبدا..