تعب الموت
بقلم الياس خوري في 29/08/2006
مات ممدوح نوفل ولم يعطني الموت مسافة للحزن. كنت اتخبط في دمي، وكانت الحرب تقرع بوابة الجنوب اللبناني، وكان الموت في كل مكان. اردت ساعة واحدة، ساعة كي اسند رأسي الي وسادة خالية من الكوابيس، ساعة لحزن شخصي، ساعة لذاكرة ابطال زمن مضي، ساعة للتأمل في السرطان الذي ينهش الرئتين، ساعة للوحدة والدموع الباردة، وكأس نبيذ.
مات ممدوح نوفل، ولم اجد يدا اصافحها بالعزاء. كانت ايدينا مبللة بالدم، وكان الخراب يمتد من عيتا الشعب الي السماء، وكنا وحدنا.
مات ممدوح نوفل، ولا نزال وحدنا، هناك في رام الله وهنا في بيروت. وحدنا، كأن قدرا ما جمعنا منذ عام 1968، ولم نفترق حتي حين افترقنا. حين نجتمع نكون وحدنا، وحين نفترق تزداد الوحدة وحشة. يقاتلون هناك، ونقاتل هنا، والشعور بمرارات الوحدة يزداد حدة.
مات ممدوح نوفل، ونسينا ونحن نستقبل المقاتلين الجدد، المقاتلين المؤسسين، الذين صنعوا ملاحم الجنوب اللبناني قبل ان يأخذهم موت الاجيال الجديدة الي النسيان.
ما اسم هذه الذاكرة التي لا تتذكر؟
كان ممدوح نوفل القائد العسكري للجبهة الديمقراطية، وفي آخر لقاء لي به في بيروت كان يقود القوات الفلسطينية في مغدوشة، خلال ما عرف باسم حرب المخيمات في أواسط الثمانينات، يومها جاء الي منزلي وشربنا النبيذ والمرارة، وحين سألته عن الأفق اجاب بكلمة واحدة: نحن علقانين . وبقيت هذه الكلمة معي، ولا تزال. اشعر بها مع كل منعطف في هذا الصراع الوحشي الذي لا نهاية له. لقد علقنا في الدوامة. وحين نبحث عن السلام، و نسعي اليه، مثلما فعل الرفيق ممدوح وصحبه بعد اوسلو، نجد انفسنا في الفراغ، حيث حصاد حياتنا قبضة من الدم والألم.
وبعد ذلك التقينا في تونس، قبل ان يحط الرفيق ممدوح في رام الله. وحين نلتقي او لا نلتقي كانت الذاكرة مصنوعة من تلك الكلمة الصائبة التي قيلت في بيروت يوم لم يكن هناك من افق. وبقيت الكلمة معنا، لأن الأفق كان مسدودا بالدم والحقد والعماء الاسرائيلي.
عندما مات ممدوح، لم اجد كلمة عزاء واحدة تليق بمقاتل راهن علي المستحيل فخذله المستحيل. المستحيل يا صديقي ليس الحرب بل السلام. الحرب ممكنة دائما، بل هي الأمكانية الوحيدة المتاحة، اما السلام فلا. الحرب هنا، تعال يا صديقي الي بنت جبيل وعيترون ومارون الراس، تعال الي عيتا الشعب والطيبة والغندورية، تعال وسوف تري الارض التي استكشفتها ورسمها رفاقك بالدم منذ ثلاثين عاما، يعاد استكشافها من جديد وترسم بالدم والخراب. تعال الي القطاع الأوسط، نعيم كان هنا، هل نسيتم نعيم ايها الرفاق؟ وبدلا من الفدائيين القدامي جاء المجاهدون. الم يكن رجال ثورة 1936 يطلقون علي انفسهم اسم المجاهدين، ثم جئتم انتم، وجاء معكم الاسم الجديد، صار المجاهد فدائيا، واليوم يعود الفدائي مجاهدا، في انتظار الغد حيث ستتبدل الأسماء مرة اخري.
هل تلاحظ معي يا ممدوح ان الغد ليس السلام، بل مجرد تبديل للأسماء، لأننا علقانين في حرب بلا نهاية. لم اقل ان الغد سيأتي بالسلام، بل بأسماء جديدة – قديمة للمقاتلين، لا لأننا نحب الحرب بل لأننا نكرهها، نحن نكرهها وهي تزداد التصاقا بجلودنا، وتأخذ حيوات اجيالنا لأنها لا ترتوي من دمنا.
لن أقول ان هذا قدرنا، ولن استعيد كلمات ياسر عرفات الذي كان لا يمل من تكرارها عن فئة من امتي هم في رباط الي يوم الدين . فنحن يا صديقي لا نؤمن بالأقدار، وكان حلمنا ان نقبض علي التاريخ من قرنيه ونجلبه الي مائدة السلام التي تصنعها الحرية. غير ان هذا الحلم تحطم لحظة ولادته، بل انه لم يولد قط. صنع تعبنا حلما، ووجدنا انفسنا في الخديعة، واكتشفنا ان اسرائيل في حاجة الي ما هو اكثر من العقلانية ومن تحطم صورتها الأخلاقية في العالم، كي تأتي الي السلام. اسرائيل في حاجة الي الهزيمة كي تنقذ نفسها من وهم القوة، وقوافل الفدائيين والمجاهدين عاجزة عن الحاق هذه الهزيمة بها، لذا لا يبدأ السلام معها حتي ينتهي ويتلاشي، ويستعيد الدم حكايته في غزة ولبنان والضفة الغربية.
اعتذر منك، واعرف انه سيأتي غدا من يعتذر مني، فالحكاية لا تزال في منتصفها، وهذا يعني اننا لا نستطيع ان نحزن ساعة يأتي الحزن، واذا اصابنا الحزن فاننا لن نجد الكلمات، لأن الحروب لا تكتفي بحصد الارواح بل تحصد الكلمات ايضا.
اعرف ان الموت رحمة، هكذا كانوا يقولون، وان الموت بين الأهل نعاس، مثلما يقول المثل الشعبي اللبناني، لكن كي نموت بالنعاس، وكي نري رحمة النهاية، فنحن في حاجة الي استراحة بين الحروب، وهذا ما لم يستطع جيلنا الوصول اليه.
مت يا صاحبي لأنك تعبت. وامام هذا الموت، نعلن تعبنا. بدل ان نرثي نقول التعب، ثم نلتفت الي نداء الخراب ونذهب اليه، وننسي اننا نموت لأننا تعبنا من الموت.