في وداع ممدوح
بقلم ياسر عبد ربه في 29/08/2006
اتذكر مشهدين عندما اعود بالذاكرة للحديث عن ممدوح… مشهد الشاب النحيل في اوائل العشرينات من عمره والذي التقيته سراً في عمان لضرورات العمل آنذاك بعد حرب عام 67… كان معلماً في مدرسة في شمال الاردن، وعضواً في خلية فدائية كانت تنشط قبل الحرب.. ابلغني ممدوح وقتها انه ينوي التفرغ كلياً للعمل الفدائي، وكانت لهجته القلقيلية الخالصة تضفي مزيداً من الحرارة والصفاء على كلامه كنا نتكلم ونتصرف وقتها وكأننا شرعنا في رحلة تحرير الوطن!! وان انجاز هذا الهدف سيتحقق في الأمد المنظور!! ومهما يكون رأينا الآن في واقعية أو سذاجة هذا الحلم، فعلى الاقل بدأت صداقتنا منذ ذلك اللقاء.
والمشهد الاخر وهو على سرير المستشفى قبل رحيله بأسبوع… عاد نحيلاً كما رأيته أول مرة، وغاض لونه وصار داكناً، ومعالم وجهه تغيرت تحت كمامة الاوكسجين، ولكن الحرارة نفسها كانت تتدفق، وهو يرفع عن فمه الكمامة ويعيدها ليستفسر وليعلق على وقائع مأساتنا التي لم تتوقف، وليدلي بملاحظات ويقدم نصائح…. وكلها تشير ان عقل هذا الرجل المستنير لم يوقفه الألم عن العمل ولا عن محاولة اكتشاف الجديد واقتراح الحلول لقضايا وضعنا الذي يزداد تعقيداً.
اربعون عاماً تفصل بين المشهدين، قضاها ممدوح وهو يناضل من أجل تطوير قدراته ومواهبه وسط معارك خاضها على جبهات عدة، عسكرية وسياسية وثقافية. وأنا اتحدث هنا عن عمل دؤوب ومصمم من أجل تطوير قدراته ومواهبه، لأن ممدوح كان ظاهرة خاصة واستثنائية.
تعلم خلال الحروب كيف يكون قائداً عسكرياً حقيقياً وبارزاً… كنت اشاهده يدون كل معلومة وملاحظة وخبرة حتى لأحدث مقاتل على ورق دفتره الصغير… ومن هناك، وبهذه الروح تلقن ممدوح افضل دروسه.
وهو ظاهرة خاصة واستثنائية لانه من القلائل الذين انتقلوا من قتال السلاح الى القتال السياسي، الى الكتابة السياسية النقدية وتدوين مراحل ومحطات هامة من تاريخ حركتنا الوطنية…
وفي كل مرة كان يخوض المعترك ولو بأسلحة وخبرات قليلة، ثم يتعلم ويتطور ويصقل مهاراته عبر الخبرة والتجربة، ومن خلال القراءة والاحتكاك والحوار.
ممدوح كان طوال حياته يعبر عن وطنيته الفلسطينية الحادة، من خلال دفاعه المميت والمستميت عن خط الواقعية الوطنية. ربما أخطأ احياناً، ولكن من يستطيع ان يلوم ممدوح عندما كان، وكنا كلنا نجتاز دروباً ومسالك غير مألوفة وغير اعتيادية وغير مطروقة من قبل. لقد كان يريد لشعبه الخلاص من عذابه، وما كان يتردد يوماً أن يعرض نفسه ونمط حياته وعلاقاته كلها الى الضياع عندما يقتنع بضرورة موقف سياسي ما في اطار اندفاعه على خط الواقعية، وضد خط التعصب والانغلاق والتطرف اللفظي والمزايدة السياسية.
صديقي واخي ممدوح كان عنيداً للغاية، وكان في الوقت ذاته منفتحاً مع كل الناس… وكان مغامراً احياناً، ولكن روح المغامرة لم تضعف نزعته الواقعية الشديدة. كان ممدوح متشبعاً بروح جيلنا كله وآماله في عالم جديد ووطن حر ومستقل، وفي خلق الظروف التي تساعد شعبه حتى يسير على دروب التنوير والتقدم.. لا دروب الجهالة والظلامية والخرافة..
في آخر لقاء بيننا وهو على فراش المرض كان عازماً على انهاء كتاب جديد عن مرحلة ماضية من مراحل نضالنا… وكان عنده بقايا أمل في أن ينتصر على المرض، أو ان يكسب وقتاً اطول في صراعه معه.
ولكني، لأنني اعرف صديقي ممدوح الذي كان يعرف ان المعارك لا تُكسب دائماً، فقد كنت متأكداً أيضاً بأن روح الواقعية الوطنية والثورية علمته قبول الخسارة والاعتراف بها….
كنت أعرف انه يعرف ان هذه المعركة الاخيرة ضد مرضه خاسرة ولا نهوض له بعدها. ورغم ذلك فإن تلك المعرفة لم تقتل فيه الأمل والثقة في ولادة كتاب جديد ترك مخطوطاته وفي قيامة وطن جديد، ولو بعد رحيله.