الأزمة تشمل جميع الطراف الفلسطينية والاولية لاصلاح السلطة
بقلم ممدوح نوفل في 30/05/2002
يجمع المفكرون والبحاثة المستقلون، المعارضون والمؤيدون لعملية السلام، على أن النظام السياسي الفلسطيني بشقيه الرسمي والشعبي، يعيش منذ مدة طويلة أزمة سياسية وفكرية وتنظيمية حادة متفاقمة. وبصرف النظر عن رأي شارون وأركان الإدارة الأمريكية والقوى الدولية والإقليمية الأخرى في أوضاع السلطة، والحاحهم على إجراء إصلاحات واسعة في بنيتها وتوجهاتها، فالأزمة التي يجري الحديث عنها عبارة عن مجموعة من الأزمات الحقيقية الخطيرة: مأزق عملية السلام وانعكاسه على وضع السلطة والوضع الوطني العام. تكوين السلطة الوطنية وبرنامج عملها وممارسات مؤسساتها الأمنية والمدنية. أزمة منظمة التحرير الفلسطينية واشكالية علاقتها بالسلطة. أزمة أحزاب وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية “سلطة ومعارضة”. وبجانب وفوق هذه الأزمات، هناك أزمة اقتصادية طاحنة تضغط يوما على عقول الناس وبطونهم. وأزمة الديمقراطية لجهة مفهومها وممارستها في العمل الفلسطيني. وهذه الأزمات متساندة في الفروع ومتشابكة في الجذور تغذى بعضها بعض وتدعم الواحدة الأخرى.
بديهي القول أن اعتماد القدرية في معالجة هذا الكم الهائل من الأزمات، وانتهاج مواقف سلبية انتظارية سلبية في معالجة مشاكل الوطن وهموم الناس، يضر ولا ينفع. ولا يسمن ولا يغني عن جوع، ويعقد الحلول ويزيد في الهموم ويحولها إلى كوارث ونكبات وطنية. والاكتفاء بمواقف الردح والتنكيت داخل غرف مغلقة لا يصلح الخلل ولا يصحح الأخطاء. وإحلال الرغبات والأمنيات الذاتية بديلا عن الوقائع في تشخيص الأزمة أو الأزمات، يقود إلى حلول وهمية يضيع فيها وقت ثمين وتهدر جهود وطنية في اتجاهات خاطئة أو ثانوية غير أساسية، تمس مظاهر الأزمة وقشورها وليس جوهرها.
وفي سياق معالجة هذه الأزمة أو رزمة الأزمات أعتقد أن فكفكة مكوناتها بعضها عن بعض، يسهّل الحل ويساعد على رؤية الموضوعي منها والطبيعي الناتج عن الاحتلال، وتمييزه عن الطارئ الناشئ عن زراعة الذات وصناعة السلطة والمعارضة. والتعامل مع أزمة العمل الوطني الفلسطيني بالمفرق أفضل وأكثر عملية ويسهل على البحاثة وأصحاب القرار تمييز الخطير من الأزمات عن الأقل خطورة ويسهل الإمساك بالحلقة المركزية ومنحها الأولوية في العلاج. أما أسلوب العلاج الجملة فهو أقرب لشعارات تضعف الهمم وتحبط الجهود وتعقد الحلول. ويفسح في المجال تضييع الحلقة المفصلية التي يجب أن تنال الاهتمام الأكبر.
لا شك في أن أزمة السلطة تمثل حلقة مركزية في سلسلة أزمات النظام السياسي الفلسطيني، وعلاجها يسهل ويسرّع علاج الأزمات الأخرى. ومراجعة تاريخ السلطة يبين ان ميلادها في العام 1994 تم عبر عملية قيصرية جرت في “اوسلو” تحت إشراف أمريكي إسرائيلي. وبمعزل عن رأي المعارضة في السلطة، لا أحد يستطيع إنكار أن تشكيل هذا الجسم القيادي شكل امتحانا لفكر وخبرات الفلسطينيين وقدرتهم على بناء أول سلطة فلسطينية على أجزاء من أرضهم. وتنبأ كثير من الفلسطينيين بأنها لن تعمر طويلا ، ولم تصدق نبوءتهم. وناصبها آخرون العداء وقرروا تنغيص حياتها تمهيدا للخلاص منها لكنها صمدت 10 سنوات، ولأسباب ذاتية وموضوعية لم تحقق ما تمناه الفلسطينيون. وإشكاليات الولادة، وإرث منظمة التحرير الذي حملته، وتعثر مفاوضات السلام، وتلاعب إسرائيل بالاتفاقات، وتراجع الراعي الأمريكي عن الوفاء بالتزاماته..الخ لعبت دورا محوريا في تعميق الأزمة التي حملتها منذ لحظة التكوين.
وزاد طغيان الاعتبارات الحزبية في تشكيل السلطة، الأولى والثانية، في تضيق قاعدتها الشعبية. وجعلها أقرب إلى سلطة فئة واحدة وحزب واحد، مليئة بالسياسيين وناقصة خبراء أخصائيين في مجالات العمل اليومي المنوط بها. في وقت سئم الشارع الفلسطيني ممارسات وعلاقات الفصائل والتنظيمات والأحزاب، ويتطلع إلى أطر وأحزاب سياسية أكثر ديمقراطية وأقل بيروقراطية ودكتاتورية. وزادت التعيينات العشوائية والانتقائية، ذات الصبغة الحزبية والشخصية، في طغيان الفصائلية والعشائرية على بناء السلطة. وظهرت العصبوية التنظيمية في أبشع صورها، وتوسع الصراع على مراكز السلطة بين القادمين من الخارج والمقيمين أصلا في أرض الوطن، وبين كوادر مختلف التنظيمات وكوادر التنظيم الواحد. وأثقل كاهل السلطة بأعباء مالية ضخمة شوشت وشوهت صورتها في عيون الشعب والدول المانحة. وفرض عليها إنفاق معظم وارداتها والمساعدات التي تصلها في رواتب قرابة 150 ألف موظف ومجالات أخرى غير منتجة.
وساهم عدم الاحتكام للقانون وانعدام المحاسبة المسئولة، وغياب دور المؤسسة في إدارة العمل، في إظهار السلطة أمام أبنائها ومؤازريها، قبل خصومها، أنها فاشلة ينخرها المحسوبية والفساد. ونفر قطاع واسع من الشعب الفلسطيني من حولها، ضمنهم ناس هللوا لها يوم ميلادها. وخاب أمل الواقعيين الديمقراطيين في سلطة فلسطينية ديمقراطية. وتشكلت صورة عن السلطة في ذهن المواطن الفلسطيني مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية، التي طالما انتقدها ورفضها نموذجا لحكمه وسلطته.
وجاءت “انتفاضة الأقصى” وتشكيل “قيادة القوى الوطنية والإسلامية” ووسعت الفجوة القائمة بين السلطة والناس في الضفة والقطاع. وخلقت نوعا من ازدواجية السلطة في الشارع الفلسطيني، وتعزز الاتجاه المعارض لسياسة السلطة وتوجهها القائم على انتزاع الحقوق عبر مفاوضات السلام. ومع دخول الانتفاضة منحى “العسكرة” تراجع دور السلطة ونفوذها، وظهر ضعف سيطرتها على الوضع، خصوصا في مجال حفظ الأمن الداخلي والوفاء بالتزاماتها التي وقعت عليها. وفشلت في وقف العمليات “الانتحارية” التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل. وضعفت مكانة قيادة السلطة في الحقلين الداخلي والخارجي.
وظهرت تشكيلات مليشيا موازية لأجهزة السلطة الأمنية، وكثيرا ما تمردت هذه التشكيلات على قرارات السلطة وقوانين حفظ الأمن والنظام العام، علما أن بعضها ينتمي إلى حزب السلطة “فتح”. وظهر انفصام بين قيادة السلطة وكوادر وقواعد وجمهور حزبها المركزي، بلغ درجة إصدار بيانات علنية باسم “كتائب شهداء الأقصى” التابعة لفتح، رفضت صراحة توجهات السلطة وأعلنت ما يشبه التمرد على قراراتها.
وفي الانتفاضة برز دور حركة حماس وقوى المعارضة قوة موازية للسلطة، لها تشكيلاتها ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاجتماعية والصحية والثقافية، ولها موارد مالية تكفي لتوسيع نفوذها في المجتمع الفلسطيني، وسد حاجاتها التنظيمية وتغطية مستلزمات نشاطاتها العسكرية والإعلامية المتعارضة مع توجهات السلطة.
وجاءت وقائع “عملية السور الواقي” أو “الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الثانية”، وكشفت قصور مجلس الوزراء في إدارة المعركة داخليا وخارجيا. وتلاشى وجود السلطة في الشارع الفلسطيني، وقصرت الأجهزة الأمنية والمدنية في القيام بواجباتها. وتجلى ضعف السلطة في الدفاع عن مناطق السيادة الفلسطينية، وفشلها في توفير الخدمات المدنية للمواطنين. وتعمقت الفجوة بين السلطة والمواطنين، ولم يفلح صمود رئيس السلطة “عرفات” تحت الحصار بتغطية تقصير الوزراء وكبار الموظفين ة وقادة وكوادر أجهزة الأمن.
وارتفعت أصوات وازنة في المجتمع الفلسطيني تطالب بمحاسبة الوزراء وذوي المناصب الرفيعة وقادة أجهزة الأمن على إساءة استغلال مواقعهم في المرحلة السابقة، وتقصيرهم وفشلهم في النهوض بمهامهم إبان الحرب المستمرة. ولم يشفع لهم إعلان عرفات أمام المجلس التشريعي تحمله مسئولية الأخطاء والتقصير الذي ظهر قبل وخلال الحرب. وبات الإصلاح والتجديد مطلبا فلسطينيا ملحا، ينادي به الجميع، لا يقلل قيمته وضروراته ركوب المقصرين والفاسدين المستهدفين في عملية الإصلاح موجة المطالبة بالتغيير. وحديث شارون والإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي عن إصلاح السلطة، لا يغير الهوية الوطنية للمطالبين بالإصلاح والتغيير.
وفي سياق الحديث عن الإصلاح لعل يفيد التذكير أن حقن جسم السلطة ببعض المسكنات من جديد يضر ولا ينفع. وإصلاح أوضاعها من وجهة نظر وطنية فلسطينية يتطلب خطوات وطنية جريئة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض الشخصيات أهمها: 1) إعادة تشكيل الوزارة على أسس جديدة، غير التي اعتمدت سابقا، تتناسب وطبيعة تحديات المرحلة. وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة. واختزال عدد الوزارات وتشكيل وزارة استيعاب وتأهيل العائدين والنازحين واللاجئين والمتقاعدين. وتقليص نسبة الحزبيين لصالح ذوي الكفاءة والخبرة والاختصاص في كل المجالات، ومن يتمتعون بالثقة والمصداقية في صفوف الفلسطينيين، وفي الأوساط العربية والدولية. 2) تحديد مهام السلطة وفصلها عن مهام التنفيذية، وتخفيف الأعباء غير الضرورية عن كاهلها بفك التداخل الحاصل بين مهامها ومهام اللجنة التنفيذية. وحصر مهام السلطة في إدارة المجالات المنوطة بها، وإنهاء خلط اجتماع الهيئتين. 3) وضع اللوائح والأنظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة والمجلس التشريعي و م ت ف. وإخضاع السلطة لمحاسبة ومراقبة المؤسسات التشريعية “المجلس تشريعي والمجلس الوطني” حسب قرار المجلس المركزي الذي تم بموجبه تشكيل السلطة.4) تجديد شرعية القيادة الفلسطينية وإجراء انتخابات رئاسة السلطة وعضوية المجلس التشريعي. وانتخاب المجالس البلدية والقروية. ووضع قانون يلزم الأحزاب والحركات السياسية والمنظمات والإتحادات الشعبية أجراء انتخابات داخلية دورية، بما في ذلك انتخاب ممثليها للهيئات القيادية المركزية، التشريعية والتنفيذية. 5) وقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة في تعبئة المراكز والوظائف الشاغرة في أجهزة السلطة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية. وإعادة النظر في فائض التعيينات، وتحويل المعينين في إطار ترضيات حزبية، الى وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات أكثر جدوى. وإحالة كبار السن والفائضين عن الحاجة إلى التقاعد. 6) خلق توازن بين الايرادات والنفقات، وبين الإنفاق الجاري على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة مشاريع منتجة قادرة على استيعاب قسما من البطالة، والتنبه سلفا لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية. 7) تحرير وزراء السلطة الفلسطينية من الضغط المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الشاقة وإحياء دور اللجنة العليا لمتابعة المفاوضات وإعادة تشكيلها.
لا شك في أن التقييم الموضوعي للسلطة الفلسطينية يفرض اعتبار وجودها تطورا ايجابيا يخدم تصحيح وتطوير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية باتجاه تحقيق أهدافها الإستراتيجية. وتمني فشل، أو العمل على إفشال تجربة السلطة لا يخدم الهدف الوطني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على ان يحكم نفسه بنفسه ويدير حياته بنجاح. وبصرف النظر عن النوايا فإن فشل تجربة السلطة فشل لجميع أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية دون استثناء.