ابوجهاد رجل العهد والوفاء الوطني
بقلم ممدوح نوفل في 17/04/1998
الحلقة 3:
فجر يوم 17/4/1988 حضر”ابوعلي عصام اللوح” الممثل الشخصي للقائد العام في لبنان لمكان نومي على غير عادته. بعد اغلاق باب الدار واختفائه عن عيون الحراس والمرافقين انفجر باكيا وسالت دموعه بغزارة وهو يقول اغتالوا ابوجهاد..راحت الانتفاضة..مات ضمير الثورة..حمى الله ياسرعرفات..ابوعمار لا يستطيع العيش بدون ابوجهاد..ابوجهاد لا يقدر بثمن ولا يمكن تعويضه..لقد عرف الاسرائيليون من يصطادوا.. ابوجهاد رجل قدري اتكالي ومهمل في شؤونه الخاصة بما في ذلك أمنه الشخصي. حاولت وقفه عن الكلام وعن البكاء بقذف سيل من الاستفسارات والاسئلة حول دقة معلوماته وحول مكان الاغتيال والكيفية التي تم فيها وحول دور حرس ابوجهاد واجهزة امن الثورة..الخ الا انه لم يسمع اي من اسئلتي واستمر في البكاء والهذيان لفترة ليست قليلة. في حينه لذت للصمت ورحت افكر في الموضوع وفي ما يقولة ابوعلىعصام، وقلت في نفسي اغتيال ابوجهاد خسارة لا تعوض، واقدام اسرائيل على اغتياله تطور في الصراع، ويجب الانتقام لاغتيال ابوجهاد. فالاهانة الكبيرة التي لا يرد عليها تتضمن دعوة لتكرارها. وسألت نفسي حول وقع خبر استشهاد ابوجهاد على المنتفضين وحول تأثير غيابه على الانتفاضة وعلى الوضع الوطني الفلسطيني، فابوجهاد رجل المهمات الخاصة وهو مولد رئيسي للطاقة فيها. لم استطع الاجابة على الاسئلة الكثيرة التي دارت في ذهني. لذت للصمت وفتحت جهاز الراديو لاتأكد من الخبر واوقفت الابرة عند محطة كانت تبث معلومات عن سيرة حياة ابوجهاد، وتنقل التعليقات وردود الافعال المتنوعة حول اغتياله. توقف عصام عن البكاء وصمت مثلي وراح يستمع لما تقوله الاذاعات. ثم قطع الصمت وقال : اغلق الراديو، دعنا نتحدث قليلا قبل ان اتوجه للمختارة للقاء بوليد جنبلاط. وليد طلبني على عجل وهو مذهول من استشهاد ابوجهاد. ابوجهاد راح ورحل عنا مبكرا والمهم الان حماية ابوعمار. ماذا يمكنا ان نفعل نحن هنا من لبنان للرد على اغتيال ابوجهاد..عار علينا جميعا ان يمر اغتياله دون فعل كبير، يجب التفكير في الانتقام، يجب ان تدفع القيادة الاسرائيلية الثمن غاليا، وسالني هل تفكر في الذهاب الى تونس للمشاركة في جنازة ابوجهاد ؟ لماذا لا تذهب الى تونس وتبقى بجانب ابوعمار بعد ان فقد ابوجهاد وقبله فقد ابوالوليد سعد صايل اهم مساعديه من العسكريين الفلسطينيين. وجودك بجانبه ضروري. في حينه لم أفكر في ما قاله عصام، وسيطرت قصة اغتيال ابوجهاد ونجاح الاسرائيليون في الوصول اليه على ذهني، ورحنا نخمن تفاصيلها بعدما قال عصام برقية تونس حول الموضوع مقتضبة جدا وهي اقرب الى بيان نعي لابوجهاد، حاولت مع الاخوين علاء وعبد المعطي الاتصال مع الاخ ابوعمار لتقديم واجب العزاء وللاستفسار حول الموضوع الا اننا لم اتمكن، وانت تعرف معنى ذلك. وضع الختيار صعب وحالته النفسية سيئة جدا. بعد هدوء عصام سكب كل منا سيلا من الذكريات عن العلاقة النضالية مع ابوجهاد وعن المواقف الصعبة التي مر بها.
غادرني عصام وتركني شارد الذهن ملتصقا بجهاز الراديو. وخلال فترة الشرود رحت استعيد شريط الحياة النضالية المشتركة التي جمعتني مع ابوجهاد بدء من الاغوار الاردنية مرورا باحراش جرش عام 1971 وحتى آخر مكالمة هاتفية تمت معه. تذكرت دوره التعبوي والوحدوي، تذكرت صفاء ذهنه في اللحظات الصعبة القاسية. وقلت لنفسي ابوجهاد خسارة كبيرة لا تعوض، وصدق من قال عنه في الراديو قبل قليل ابوجهاد اول الرصاص واول الحجارة. تذكرت قوله يجب ان لا ننسى نحن الفلسطينيون بان العرب اهانوا الحاج امين الحسيني، وان مفتي فلسطين لم يجد مكانا يقيم فيه، وانه عاش في العراق وطرد منها كما طرد من مصر وسوريا. تذكرت ميدانيته واهتمامه الدائم باوضاع المقاتلين وكيف كان يحرص خلال حرب 1982على زيارة الكمين الاول في حي السلم وفي ميدان سباق الخيل، والموقع الذي لا يستطيع زيارته في النهار يزوره في الليل. وكيف يحفظ عن ظهر قلب اسماء الكوادر الصغيرة. تذكرت فرح الاطفال الذي ظهرعلى وجه ابوجهاد عندما ابلغته بعد حرب 1982بنجاحنا في نقل دفعات من الاسلحة من جنوب لبنان الى الوطن المحتل، وكيف اندفع وقدم سيارتين لتوسيع اسطول النقل وقال المهم ان يصل السلاح للداخل ادفنوه في الارض فهناك ينبت وينمو ويثمر منه الاستقلال. تركت الذكريات وتحركت باتجاه مركز قيادة فتح في لبنان حيث يتواجد علاء قائد لقوات ومساعده عبد المعطي. وهناك كان بكاء اصلب الرجال امرا انسانيا طبيعيا. رفاق ابوجهاد وأحبته وتلامذته لم يتمكنوا من حبس دموعهم. الحزن شديد والقلق على المصير الوطني ليس بسيط.
قليل من الفلسطينيين يعرفون كم مرة حاول الاعداء والخصوم الاخوة والاشقاء اغتيال ابوجهاد. فهو رجل كتوم صامت لا يحب الحديث عن الذات. لم يكن يعرف الخوف، كان قدري ويؤمن بان المكتوب على الجبين لابد ان تراه العين. نجا من محاولات اغتيال اسرائيلية وعربية وفلسطينية كثيرة كانت اصعبها واقساها على نفسه تلك التي قام بها من كانوا رفاق دربه يوما ما. وصل من طرابلس لبنان الى بعلبك في وقت كان المنشقون يسعون الى توسيع رقعة تواجدهم وتعزيز سيطرتهم على اوضاع فتح في لبنان. علم المنشقون بوجوده في بعلبك فنصبوا له الكمائن وطوقوا مدينة بعلبك ووضعوا عناصرهم على حواجز الجيش السوري على امل اصطياده. يومها ارسل ابوجهاد رسالة قصيرة مع مسؤول صيانة السيارات يقول فيها “انا موجود في بعلبك، آمل ان تتمكن من المرور لطرفي الان، افكر في العودة الى طرابلس بعد ان انهيت اعمالي ومهامي. من المفيد ان اراك قبل مغادرتي.. ما يجري الان مؤامرة كبيرة ولها فصول متعددة.. والهدف الاساسي هو شطب الهوية الفلسطينية وشطب التمثيل. وما تحدثنا حوله في احراش جرش يتجسد الان على الارض، التاريخ يعيد نفسه يا ممدوح، ولكن تجربة الحاج امين الحسيني لن تتكرر طالما نحن متمسكين بالبندقية وبقرارنا الوطني الفلسطيني المستقل”. قرأت الرسالة، وسألت السائق عن الوضع في بعلبك وعلى الطرقات. قال بعلبك محاصرة من كل الاتجاهات، وكل طرقها كمائن لجماعة ابو موسى وابو خالد العملة وجماعة ابو نضال واحمد جبريل ويدققون مع السوريين في كل السيارات. قرات الرسالة مرة ثانية، وكتبت رسالة قصيرة قلت فيها: قبل الغروب سأكون بطرفكم رجاء الانتظار وان لا تكون قدري لمدة ثلاث ساعات فقط. ارسلت الرسالة وبعد الغروب كنت في بعلبك، الا انني فوجئت بان ابوجهاد استقل سيارة الكراج “المهرجلة” التي حملت الرد وتحرك الى طرابلس بهوية مقاتل من مقاتلي الجبهة دون مرافقة وبلا اي حراسات. عند منتصف الليل لحقت به ودهشت عندما سمعت من السائق تفاصيل تجاوزهم الحواجز السورية والفلسطينية المتسورنة. في اليوم التالي انتشر خبر نجاة ابو جهاد من الكمين، ولاحقا راجعني المنشقون بالموضوع بحضورالعقيد سميرالخطيب وقلت لهم سياتي يوم يطلب مني ابو خالد وابوصالح وابوموسى او من فلسطيني آخر مساعدتهم في الخلاص من المؤامرات العربية.
مع انتشار خبر اغتيال ابوجهاد شهدت المخيمات الفلسطينية في لبنان، المحاصرة وغير المحاصرة، تحركات شعبية واسعة ومتنوعة. كانت عفوية وصادقة. نزل الناس للشوارع دون دعوة من احد. تجمعوا وتظاهروا بكووا ونددوا بالاغتيال وبالمجرمين وطالبوا بالانتقام. هتفوا بحياة الثورة وحياة م ت ف. وعلى مدى عدة ايام ظلت مكاتب م ت ف ومكاتب حركة فتح محج للمواطنيين اللبنانيين والفلسطينيين. ولم يستطع حتى ألد أعدء م ت ف ومن حاولوا اغتيال ابوجهاد الا ان يشيدوا بمناقبه وبدوره في صناعة الثورة الفلسطينية وفي قيادتها باخلاص. اما داخل الوطن المحتل فلم يرغب الناس تصديق الخبر. ونزل الجميع للشوارع وتحدوا اوامر منع التجول التي اصدرها الاحتلال، وخاضوا معارك شوارع وكانت النتيجة عكس ما اراده الاحتلال.
بعد استشهاد ابوجهاد دار ناقش واسع في اجتماعات القيادة الفلسطينية التي عقدتها في تونس حول مكان دفن جثمان الشهيد ابوجهاد. في حينه برزت آراء متعددة. البعض اقترح دفنه في عمان ليكون قريبا من فلسطين…فهذا يسهل علينا وعلى الاجيال اللاحقة نقله الى ارض الوطن. آخرون اقترحوا دفنه في دمشق بجانب من سبقه من القادة الفلسطينيين المدفونين هناك، وليكون ايضا بمثابة رسالة فلسطينية للقيادة السورية نستثمرها في انهاء حرب المخيمات وتقليل عذابات اهلنا في كل لبنان. وكان هناك رأي ثالث اقترح دفنه في تونس بجانب من سبقه من المناضلين الفلسطينيين الذي استشهدوا على الاراضي التونسية. لاحقا استقر رأي الاغلبية على دفنه في الشام ووافق ابوعمار على ذلك شبه مكره، لانه لم يعلق الامل على وقوع تغيير في الموقف السوري من الانتفاضة ومن القيادة الفلسطينية ومن وحدة م ت ف وشكك في انها ستوقف الحروب على المخيمات. في حينه رافق ابوعمار جنازة ابوجهاد الى دمشق ورافقه حشد كبير من القيادات الفلسطينية بعضها كان ممنوعا من العودة الى دمشق وضمنهم اعضاء المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية. وخلال ذات الفترة ولذات المناسبة تحركت باصات ووسائل نقل متنوعة تحمل اعداد غفيرة من المواطنيين الفلسطينيين واللبنانيين من مخيمات لبنان ومدنه الى دمشق للمشاركة في تشييع جنازة ابو جهاد. في حينه تسنى لاعداد ليست قليلة من كوادر فتح العودة الى بيوتها في سوريا، وكنت وعدد آخر من قيادات الثورة وكوادرها في لبنان ضمن تلك الجموع، وتسنى لي المشاركة في اجتماعات المكتب السياسي للجبهة، وكان ذلك الاجتماع اول اجتماع تبحث فيه قيادة الجبهة بصورة جماعية موضوع الانتفاضة. حقا لقد كانت جنازة ابوجهاد حدثا سياسيا كبيرا شهدته الاراضي السورية واللبنانية. فالجنازة كانت جماهيرية ورسمية، شاركت فيها القيادة السورية وكل قيادات الاحزاب والنقابات والاتحادات والمنظمات الشعبية السورية وكل القوى الوطنية اللبنانية ناهيك عن كل القادرين على الحركة من ابناء المخيمات الفلسطنية في سوريا. في حينه لاحظت القيادة الفلسطينية مشاركة شعبية سورية واسعة من كل المحافظات، واستبشروا خيرا الا ان القيادة السورية خيبت ظنهم. فبعد ايام قليلة تجددت هجمات حركة امل والمنشقين ضد المخيمات وجرت محاولات لاقتحام بعضها. وسربت أجهزة الامن السورية بان القيادة السورية سوف تطالب كل من دخل سوريا مع الجنازة مغادرتها، وسوف تلاحق وتسفّر من لا يسافر بارادته. في حينه قال ابوعمار ألم أقل لكم.. وندم لانه وافق القيادة على دفن ابوجهاد في دمشق واقسم بانه سيعمل على نقله من هناك عند اول فرصة تسمح بذلك. اما قيادة الجبهة الديمقراطية فقد وجدت في عودتها لدمشق فرصة لتحقيق مصالحة مع القيادة السورية لتأمين بقائها وعدم ترحيلها. وبادرت قبل اتمام مراسم تقبل العزاء الى الشغل على الموضوع واشغلت معها مقربين من القيادة السورية منهم رئيس المجلس الوطني “السابق” خالد الفاهوم وعبد المحسن ابو ميزر عضو اللجنة التنفيذية السابق وعصام القاضي امين سر منظمة الصاعقة الموالية لسوريا وعدد آخر من القيادات الفلسطينية واللبنانية ممن تربطها علاقات حميمة بالقيادة السورية. في حينه لمست المخابرات السورية تهالك قيادة الجبهة على البقاء في سوريا وعلى عقد مصالحة معها بأي ثمن. فراحت الاجهزة السورية ترفع سعر اقامة واستقرار قيادة الجبهة في سوريا. وكان واضحا ان ما تطلبه هو فك تحالف الجبهة الديمقراطية مع حركة فتح، وتوثيق علاقتها بالمنشقين بقيادة ابوصالح وابوموسى وابوخالد العملة. ولم تتردد بعض الاجهزة السورية وبعض قادة الصاعقة من الغمز من قناة عدد من قادة الجبهة الاولى ومن طبيعة علاقتهم مع ياسرعرفات. وغمزت من دور آخرين في قيادة الجبهة ساعدوا حركة فتح بعد حرب 1982على تثبيت تواجدها في لبنان. في حينه لم يتردد الامين العام للجبهة الديمقراطية عن التجاوب مع التوجهات السورية ومطالبها فراح هو وآخرون يهاجمون “القيادة الفلسطينية اليمينية المستسلمة”، وسارعوا لعقد لقاءات مع المنشقين، ومع كل الاطراف الفلسطينية واللبنانية الموالية لسوريا، وحاولوا التأثير على مواقف قوات الجبهة في الدفاع عن مخيمات لبنان، وانتزعوا قرارات في المكتب السياسي وامانة سر اللجنة المركزية بعدم تصدر معارك الدفاع عن المخيمات ووقف التسهيلات الكبيرة والصغيرة التي تقدمها قوات الجبهة لمقاتلي وكوادر فتح في لبنان وسوريا. وعملوا على افتعال بعض المعارك الاعلامية الوهمية مع قيادة فتح. ويسجل للامين العام انه نجح في حينه في كسب رضا القيادة السورية ورضى اجهزتها الامنية، وكان ذلك على حساب امن المخيمات والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني وعلى حساب وحدة الجبهة الديمقراطية. ويسجل لمقاتلي الجبهة بانهم لم يتأخروا في تنفيذ عملية الشهيد ابوجهاد في سفوح جبل الشيخ.