جرائم النازية أسست “للنكبة” والحرب الباردة عمقت مآسيها حلقة 1
بقلم ممدوح نوفل في 30/04/1998
الحرب الباردة عمقت نكبة الفلسطينيين وجلبت كوارث للعرب
في 15 أيار تحل الذكرى الخمسين “لنكبة” الشعب الفلسطيني، وهزيمة حركته الوطنية ومعها الجيوش العربية التي زحفت عام 1948 لانقاذه من المجازر وتحرير ارضه من الصهاينة. وهي ذاتها ذكرى الانتصار التاريخي للحركة الصهيونية ونجاحها في اقامة دولة يهودية في قلب المنطقة العربية. وهذه الذكرى محطة ملائمة للفلسطينيين ولجميع القوى المهتمة بقضايا الحرب والسلام في الشرق الاوسط لمراجعة مواقفها ابان مرحلة الحرب الباردة وتصفية حساباتها القديمة فكريا على الاقل، وإجراء البحوث اللازمة حول دور تلك الحرب في خلق ما اصطلح على تسميته بالقضية الفلسطينية، وفي تأجيج الصراع العربي الاسرائيلي. فهي تساعد العرب على فهم جوانب اساسية من هزيمتهم التاريخية وتساعد الفلسطينيين على فهم عوامل رئيسية تسببت في نكبتهم وفي زيادة مآسيها. واظنها ضرورية لا غنى عنها لاستشفاف آفاق المستقبل ولتحديد خياراتهم واشتقاق طرق ووسائل النضال التي يمكنهم اعتمادها لتحقيق اهدافهم. وضرورية ايضا للوصول الى اجابات علمية صحيحة على عديد من الاسئلة التاريخية التي بقيت دون اجابات شافية منها: هل كان العرب والاسرائيلييون بحاجة ل 45 من الصراع حتى يقتنعوا بضرورة البحث عن حلول لصراعاتهم بالطرق السلمية ؟ وهل كانت القيادة الاسرائيلية بحاجة لكل هذا الزمن حتى تقتنع بأن حل القضية الفلسطينية يجب ان يتم مع أصحابها ؟ وهل كان الطرفان بحاجة لانتظار انهيار سور برلين وزوال أحد القوتين الأعظم حتى يعترفوا بالحقائق التي اعترفوا بها ؟ وهل كان بإمكانهم في بعض مراحل الصراع الطويل الافلات من تأثيرات الحرب الباردة والوصول إلى اتفاقات ما مشابهة أقل أو أكثر مما توصلوا له حتى الآن ؟
إذا كانت الاجابة السريعة على كل هذه الاسئلة ليست سهلة والمختصر منها غير شافي فالمؤكد أن الحرب الباردة لعبت دوراً حاسماً في تقرير مسار أوضاع المنطقة على مدى ما يزيد عن أربعين عاماً. وبانتهائها نضجت الاوضاع الدولية باتجاه ايجاد حلول للعديد من النزاعات الاقليمية وفقا لرؤية الطرف المنتصر، ونضجها ساهم بدورة في إنضاج الأوضاع العربية والاسرائيلية. ودفعت رياح الوفاق الدولي التي هبت على المنطقة مطلع التسعينات بقيادة القطب الاوحد، “الولايات المتحدة الامريكية”، اطراف الصراع لتغيير مواقفهم القديمة تجاه بعضهم البعض، وأجبرتهم على احداث تغيير جوهري في اهدافهم وفي اساليب نضالهم التي اتبعوها على مدى عقود وارغمنهم خفض سقف مواقفهم، واعتماد المفاوضات وسيلة رئيسية ووحيدة لتحقيق اهدافهم الاساسية. والزمتهم بالمشاركة في عملية السلام التي انطلقت من مدريد في 30/10/1991، ولاحقا تمنكوا من التوصل الى الاتفاقات الاولية التي توصلوا لها. صحيح ان تعب اطراف النزاع وبخاصة الفلسطينيون والاسرائيليون من القتال كان له دوره في اعتمادهم مؤخرا الوسائل السلمية لحل نزاعاتهم المزمنة، الا ان تعبهم من الحروب لم يكن وحدة كافيا لدفعهم نحو الجلوس وجها لوجة خلف طاولات المفاوضات. فالارهاق والتعب من الحروب لم يظهر على الطرفين بشكل مفاجىء بعد حرب خليج وبالتحديد في اكتوبر عام1991، بل سبق ذلك التاريخ بسنوات عديدة. وتحميل الحرب الباردة المسؤولية الرئيسية عن عدم جلوس اطراف الصراع في المنطقة خلف طاولات المفاوضات قبل مؤتمر مدريد ليس فية تجني على احد، فكل المبادرات الدولية السابقة الكثيرة والمتنوعة ـ أمم متحدة، أمريكية، سوفياتية، أوروبية، عدم انحيازـ التي سبقت مبادرة بوش ـ بيكر عام 1991 فشلت لانها طرحت في سياق صراع العملاقين حول مناطق النفوذ في العالم. واذا كانت الاتفاقات التي توصلت لها الاطراف تمت بمفاوضات مباشرة بينهم فكلها جاءت متوافقة والوجهة الدولية السائدة ومع استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية وبدفع منها. ولعل رصد ابرز المبادرات الامريكية على مدى اربع عقود بشأن حل ازمة المنطقة وربطها بردود السوفيت عليها، يساعد في تلمس الآثار المباشرة للحرب الباردة بين المعسكرين في تأجيج الصراع في المنطقة وتوسيع نطاق أزماتها، وتفجير الحروب بين دولها، وتعميق العداوة بين شعوبها. ويساهم في تفهم الظروف القاسية التي أحاطت بنضال شعب فلسطين من اجل العودة واقامة الدولة المستقلة وبالعرب من اجل تحرير اراضيهم:
في عام 1947- 1948 تلاقى الموقف السوفيتي داخل الامم المتحدة وخارجها مع الموقف الأمريكي حول المسألة الفلسطينية. في حينه لم يختلف الأمريكان مع السوفيات حول الاعتراف بدولة إسرائيل، وحول الاعلان عن قيام دولة فلسطينية بجانب الدولة اليهودية. لكنهم اختلفوا، وفق منطلقاتهم وحساباتهم الخاصة، حول الهدف من وجودها في قلب المنطقة العربية. فالاتحاد السوفياتي نظر لها باعتبارها عنصر تحريك وتثوير لشعوب المنطقة ضد الامبريالية العالمية، وتصور بعض قادته المقررين بانها سوف تكون ذات توجهات اشتراكية. أما دول اوروبا الغربية والولايات المتحدة فقد رأت فيها استجابة ضرورية لطموحات الحركة الصهيونية، ومكافئة لها على دورها في الحرب، وحلا عمليا للمسألة اليهودية في اوروبا التي تفاقمت قبل وخلال الحرب الثانية. وحلا لمشكلة من تبقى من اليهود الذين اضطهدوا على يد النازية الالمانية ونجو من محارقها. وأرادتها بذات الوقت عنصر حماية لمصالحها “وبخاصة النفطية” المتزايدة في الشرق الاوسط، وعامل ضبط واستقرار لاوضاعه، وقاعدة متقدمة تعتمد عليها في قمع حركة التحرر الوطنية العربية المناهضة لتوجهاتها واهدافها الاستعمارية. وفي مواجهة خطر الشيوعية الذي بقي لسنوات طويلة يتحكم الى حد كبير بمواقفها من اسرائيل وبسياستها ازاء النزاع العربي الاسرائيلي.
في عام 1947 أيدت الادارة الامريكية مشروع تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. ومارست ضغوطاً شديدة على وفود الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة للحصول على ثلثي الأصوات من أجل اصدار شهادة الميلاد للدولة الجديدة. ولإقرار مشروع التقسيم وإقرار القرار رقم 181 الذي دعا الى تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. ولاحقا عام 1948 لم تبذل الادارة الامريكية جهودا جدية لتنفيذ قرار الامم المتحدة رقم 194 الخاص بقضية اللاجئين الفلسطينيين رغم انها ايدته. ولم تحاول منع اسرائيل من احتلال اراضي جديدة خارج ما اعطاه لها قرار التقسيم. وفي العام 1949 وبعد التوقيع على اتفاقية الهدنة المصرية الاسرائيلية، دعمت الولايات المتحدة اهداف اسرائيل في الوصول الى خليج العقبة، وفي الاستيلاء على منطقة ام رشاش “ايلات” بالرغم من الرغبة بريطانيا في ابقائها تحت السيادة العربية للمحافظة على اتصال بري بين قواتها المرابطة على ضفاف قناة السويس وقواعدها العسكرية الموجودة في الاردن. وبهذا عززت الموقف العسكري الاسرائيلي واعطتها منفذا على البحر الاحمر، استخدمته في اقامة الصلات التجارية مع الدول الافريقية والاسيوية، وفي تهديد الدول الواقعة على هذا البحر.
ومنذ مطلع الخمسينات أمدت الحرب الباردة دولة اسرائيل بالكثير من مقومات الحياة وبخاصة تطورها العسكري وتقدمها العلمي والاقتصادي، وزودتها بكل متطلبات القوة اللازمة لمواجهة الامة العربية كأمة واحدة وكشعوب. في حينه تعاملت الادارة الامريكية بوضوح مع الصراع العربي الاسرائيلي من منطلق صراعها مع السوفيت. وعملت باتجاهين: الاول توطيد دعائم الدولة الجديدة “اسرائيل” وحمايتها، ومحاولة إقناع العرب والفلسطينيين بان وجود دولة اسرائيل بات حقيقة عليهم التسليم بها. والثاني ابداء الاستعداد “نظريا” للمساهمة الفعالة في معالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين كقضية إنسانية افرزها قيام الدولة الجديدة “اسرائيل”. وبعد اقرار مجلس الجامعة العربية لمعاهدة الدفاع والتعاون الاقتصادي 12/4/1950 تخوفت الولايات المتحدة الامريكية من نتائجها على اسرائيل. وسارعت الى استصدار تصريح ثلاثي امريكي بريطاني فرنسي “ايار1950″ حول تعزيز السلام في الشرق الاوسط. واكدت معارضتها لاستخدام القوة من قبل دول المنطقة لحل خلافاتهم. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الان قدمت الولايات المتحدة لاسرائيل بشكل متدرج ومتصاعد دعماً سياسيا وعسكرياً واقتصادياً خيالياً زاد عن ماية مليار دولار. وكانت مبيعات السلاح للمنطقة ترفض او تقبل وفقا للمواقف من الاتحاد السوفيتي.
وفي آذار 1953 أعلن وزير الخارجية الأمريكية “دالاس”: أن الرئيس أيزنهاور كلفه بزيارة الشرق الأوسط من أجل تخفيف حدة التوتر بين العرب وإسرائيل والعمل على إقرار صلح دائم بينهما. في حينه كان العرب واقعين تحت تأثير الصدمة التي أحدثها “اغتصاب إسرائيل لفلسطين” وطردها مئات الآلاف من أبنائها، ولم يكونوا في وضع القادر على الدخول في أي بحث جدي لأية حلول. ورفضوا التجاوب مع حركة “دالاس” وارتاحت القيادة الإسرائيلية من تحديد موقف من تلك المبادرة غير المتحمسة لها أصلا. وبهذا ماتت مبادرة دالاس قبل أن تدخل الأطراف في بحثها. اما الاتحاد السوفياتي فكان في ذلك الوقت ما يزال مشغولاً في إعادة بناء الذات وتوطيد بنيان الحلف الدولي “وارسو” الذي بناه في حينه، وفي التخلص من الكوارث الرهيبة التي الحقتها به الحرب العالمية الثانية. وخلال ذات العام، وبالتحديد في 6 تشرين الأول “أكتوبر1953″ أصدر البيت الأبيض بياناً قال فيه: إن الرئيس أيزنهاور سيرسل السيد “أريك جونسون” كسفير شخصي ليبحث مع حكومات المنطقة في الخطوات الممكنة، التي من شأنها المساعدة على تحسين أوضاع المنطقة. وكانت المهمة الرئيسية الواضحة للمبعوث الامريكي هي البحث في مشروع تنمية المياه في المنطقة، واستثمارها بصورة مشتركة وخلق مصالح اقتصادية مشتركة بين عدد من الدول العربية واسرائيل. واقترح جونسون في حينه مشروعاً لتقسيم مياه نهر الأردن. وتشكيل لجنة دائمة من ممثلين عن مصر وسوريا ولبنان والأردن وإسرائيل للبحث في الموضوع. إلا أن نصيب هذه الحركة الأمريكية كان كسابقتها. ونتج عنها مشروع أمريكي لتوزيع مياة المنطقة، بقي محفوظا في ملفات أرشيف عدد من الدول العربية وإسرائيل. لاحقا نفضت الأطراف المشاركة في لجنة المياه في مؤتمر السلام المتعدد الأطراف “المنسي الآن” الغبار عنه، على امل الاستفادة منه في تسوية النزاع حول المياه الذي لم يسوى حتى الان.
وفي عام 1955 إقترح دالاس وزير الخارجية الأمريكي مشروعاً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء. وتضمن اقتراحه توطين بعضهم في عدد من الدول العربية الأخرى. في حينه رفضت الدول العربية والفلسطينيون الاقتراح، وقامت مظاهرات وتحركات شعبية فلسطينية صاخبة في أكثر من بلد عربي ضد المشروع. وندد الفلسطينيون في كل اماكن تواجدهم بفكرة التوطين، وأكدوا تمسكهم بحق العودة الى ارضهم وممتلكاتهم. وفي عام 1961 وجه الرئيس كينيدي رسالة إلى الملوك والرؤساء العرب عرض فيها تصوره لحل المشكلة الفلسطينية، على أساس حق كل فلسطيني بالعودة إلى وطنه إذا شاء، أو تعويضه عن ذلك إذا لم يشأ. الا ان إسرائيل رفضت بشدة أفكار كينيدي، وشنت حملة واسعة ضدها، ولم يوافق العرب عليها لأنها كانت تحمل في طياتها مشروعا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، ودعوة بصورة مبطنة للاعتراف بوجود إسرائيل كدولة من دول المنطقة.
وظلت مواقف الادارة الأمريكية منحازة إلى جانب إسرائيل من بداية الخمسينات وحتى أواخر عهد الرئيس بوش والوزير بيكر “1992”. والاستثناء الوحيد وقع في عهد الرئيس أيزنهاور حين استنكر العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر “حرب السويس” وعلى قطاع غزة عام 1956. حيث ضغطت الادارة الامريكية على إسرائيل للانسحاب من قطاع غزة، وضغطت على البريطانيين للانسحاب من منطقة قناة السويس. وعملت بتسارع شديد على توطيد وتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة أكثر فأكثر. في حينه تلاقى الموقف السوفيتي مع الموقف الأمريكي من حرب السويس، وكان لكل منهما منطلقاته وحساباته الخاصة. وبعد حرب السويس اضطرعبدالناصر البحث عن مصادرغير امريكية لتسليح الجيش المصري. وعقد في عام 1956 اول صفقة اسلحة مع الدول الاشتراكية وكسر حصار التسليح الذي فرضته امريكيا والدول الاوروبية على مصر. وعاقبت الولايات المتحدة عبد الناصر على ادخال الاسلحة السوفيتية للمنطقة. واعلنت في 18 تموز 1956عن وقف استعدادها للمساهمة في تمويل بناء السد العالي وتبعتها انجلترا ثم البنك الدولي. وبعد اقل من اسبوع رد عبد الناصر بالاعلان في 26 تموزعن تأميم قناة السويس. وبعد ثلاثة اشهر فقط من تأميم قناة السويس نفذت القوات البريطانية والفرنسية والاسرائيلية العدوان على مصر “اواخر اكتوبر 1956″. وكان هدفها استعادة السيطرة على قناة السويس. اما الهدف الاسرائيلي من المشاركة في الحرب فقد اوضحه بن غوريون حين قال ” ان هدف اسرائيل من المشاركة في الحرب ومن الهجوم على سيناء هو تحرير هذا الجزء من الوطن. فاسرائيل لم تحصل في حرب 1948على كل ما تريد”. ولم تدخل دول العدوان الثلاثي في حساباتها الموقف الامريكي المعارض للعدوان وفوجئت بالموقف الرسمي الذي اتخذه الرئيس الامريكي “ايزنهاور”، واصراره على انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من منطقة قناة السويس وضمنها “مدينة بورسعيد”. وبالفعل انسحبت دون أن تحقق اهدافها من العدوان. وأرغم القوات الاسرائيلية ايضا على الانسحاب من صحراء سيناء وقطاع غزة دون ان تحقق هي الاخرى كامل اهدافها من المشاركة في الحرب. لاحقا تم الاتفاق في عام 1957 على تموضع قوات دولية في منطقة شرم الشيخ. واعطي لمصر حق طلب سحبها من جانب واحد، وحددت مهمتها بتأمين الملاحة الدولية وتأمين عبور البواخر الاسرائيلية من المضيق. واتيحت لادارة الرئيس الامريكي “ايزنهاور” في حينه فرصة لعمل تسوية ما للنزاع العربي الاسرائيلي من اساسه، الا انها أهدرت تلك الفرصة الثمينة، وأطالت أمد الصراع .
وفي تلك الفترة انتهز الاتحاد السوفيتي العدوان الثلاثي، واعلن وقوفه بجانب عبد الناصر. وهدد رئيس الوزراء السوفيتي “بولجانين” 5/11/1956، باستخدام الصواريخ الروسية البعيدة المدى ضد الدول المعتدية. وفي 11من ذات الشهر اعلن استعداد الاتحاد السوفيتي ارسال متطوعين سوفييت الى مصر للمساهمة في انهاء الاحتلال وطرد المحتلين. ولاقت الخطوة السوفيتية صداها في الشارع العربي عامة والمصري على وجة الخصوص. ومع بدء تغلغل نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة أضافت الولايات المتحدة عنصراً جديداً على العناصر الأساسية لسياستها الشرق أوسطية. وباتت مهمة طرد السوفيات وتقليص نفوذهم فيها ركناً أساسياً في كل تحركاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، حتى لو كان ذلك على حساب مبادىء العدل وحقوق الانسان. ولاحقا حاولت الادارة الامريكية بناء احلاف عسكرية واقتصادية تضم عددا من دول المنطقة. وفي عام 1957 طرح الرئيس ايزنهاور مبدأ السياسة الامريكية في المنطقة وعرف في حينه باسمه. وكانت خلاصته توقيع اتفاقات بين دول المنطقة لمواجهة العدوان المسلح من جانب اي دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية. وفي عام 1958 انزلت أمريكا قواتها في لبنان بناء على طلب الرئيس اللبناني كميل شمعون. وكانت حجتها حماية لبنان من خطر النظام السوري المقرب من الاتحاد السوفيتي والقريب للشيوعية. وفي تلك الفترة تعمقت الروابط بين مصر وسوريا مما دفع بالبلدين الى اعلان الوحدة بينهما في 22 شباط 1958. ومع اعلان قيام الجمهورية المتحدة احتدم الصراع في المنطقة. ورأت اسرائيل في قيام الوحدة المصرية السورية خطرا على وجودها، وعائقا كبيرا امام اهدافها التوسعية، لاسيما وان دولة الوحدة سعت لتوطيد علاقتها بالسوفيت. وفي ايلول 1961 انهارت وحدة مصر وسوريا، وانتهت اكبر ركيزة للوحدة العربية شهدها النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان للحرب الباردة دورا خفيا في انهيارها.
وفي عام 1964 طورت الادارة الامريكية في عهد الرئيس ليندون جونسون علاقتها باسرائيل، حيث وافقت على امدادها بالسلاح، وزودتها بطائرات امريكية حديثة متطورة من نوع “سكاي هوك”، علما بان الادارة الامريكية في عهد ايزنهاور وعهد كنيدي كانت اكثر حذرا في علاقتها باسرائيل وبخاصة في مجال التسليح. وفي تلك الفترة ظهر في صفوف بعض الدول العربية وبخاصة دول الطوق تخوفات حقيقية من نوايا اسرائيل العدوانية ضدها، ومن اطماع الحركة الصهيونية العالمية في الاراضي والمياه العربية ولم تكن تخفيها، حيث اعلنت الحكومة الاسرائيلية اواخر عام 1963عن قرب انتهائها من اعمال المرحلة الاولى من مشروع تحويل وجر مياه نهر الاردن الى منطقة النقب. وردا على هذه المواقف عقد الزعماء العرب في كانون اول 1964 أول قمة جامعة لهم اتخذوا فيها، بدفع من رئيس مصر”جمال عبد الناصر” ثلاثة قرارات رئيسية: الاول تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، كأطار لتعبئة وتنظيم وحشد طاقات الشعب الفلسطيني في معركة التحرير المنتظرة على يد الجيوش العربية. والثاني انشاء قيادة عسكرية موحدة للجيوش العربية لردع اسرائيل وللدفاع عن الاراضي والمياه العربية ضد اي تهديد اسرائيلي. اما القرار الثالث فكان انشاء هيئة للاشراف على تنفيذ المشاريع العربية وأولها مشروع لاستغلال مياه نهر الاردن، وفي حينه تسببت تلك القرارات في توتير الاجواء. والدتقيق في مجريات الصراع اللاحق يبين كيف عملت الادارات الامريكية المتعاقبة على توثيق علاقاتها بإسرائيل. ووطدتها وطورتها أكثر فأكثر حتى بلغت مستوى التحالف الاستراتيجي. وعارضت بصورة لا مبدئية عشرات القرارات الدولية التي أعدت أو صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. لأنها كانت تعتبرها متعارضة مع مصالحها ومع مصالح إسرائيل. ولم تتورع الادارة الامريكية المتعاقبة “جمهوريون وديمقراطيون” عن استخدام حق النقض “الفيتو” مرات كثيرة لمنع مرور بعض تلك القرارات ضاربة عرض الحائط مبادىء العدل ومصالح الدول والشعوب العربية. وكل باحث موضوعي في مجريات الحرب الباردة بين العملاقين بامكانه ببساطة الوصول الى الحقيقة القائلة بان كل الحروب والصراعات التي شهدتها المنطقة خلال عقود الستينات والسبعينات والثمانينات بدء من حرب حزيران 1967 مرورا بحرب اكتوبر 1973 وحرب 1982 في لبنان وانتهاء بحرب المخيمات وخروج منظمة التحرير من لبنان..الخ وقعت كلها في اطار الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي .