في ذكرى رحيل “خطّاب” تزداد الحاجة لامثاله
بقلم ممدوح نوفل في 22/05/1998
في مثل هذه الايام رحل عنا عزت ابوالرب “خطّاب”. كان رحيله قبل خمس سنوات هادئا بعيدا عن الصخب تماما كما كانت سيرته النضالية، وتماما كما كان يرغب الحياة ويحب اداء الواجب الوطني. في بوخارست داهمه الموت فجأة قبل ان يحقق حلم العودة، ولم تمنحه الاقدار فرصة استكمال الرسالة التي بدأها قبل اكثر من ربع قرن، وبخلت عليه مشاركتنا حياتنا التي نحياها هذه الايام. اظنه حاول التمرد، كعادته، على القدر وقاوم الموت ليلة 25/5/1993 فهو لم يكن ممن يسلمون بسهولة بالوقائع التي لا يرغبها. في قباطية فاجأه احتلال اسرائيل عام 1967 لوطنه مثله مثل كل ابناء فلسطين، فاستقبل الحدث بهدوء في الظاهر وبغليان ابن العشرين. في حينه حسم امره دون تردد وقرر احتراف النضال من اجل فلسطين ورسم لذاته طريقا، اختار اعنفها واخطرها. تأمل زيتون قباطية وجبالها وسهولها التي احبها حتى العشق، واستذكر تاريخ الشمال الفلسطيني في النضال ضد الانجليز وضد الغزوة الصهيونية الاولى، وجال سهوله وجباله وقدر بان زيتونه واحراشه قادرة على احتضان ثوارها، كما احتضنت احراش فيتنام رجال الفيتكونغ الذين أحبهم، واحتضنت ارض كوبا جيفارا الذي رآى فيه مثال.
قبل انقشاع دخان نيران المحتل انطلق “خطّاب” ينظم الخلايا ويجمع ما امكن جمعه من السلاح. شرع في التدريب، وتحرك في كل اتجاه بحثا عن امثاله دعاة مقاومة الاحتلال، ولم يتأخر في العثورعلى “فتح” فانضم لصفوفها. لم يسأل عن برامجها النظرية، فالمهم انها حركة فلسطينية غير تابعة لنظام وتنادي بالكفاح المسلح طريقا للتحرير. تخيل قباطية وكل شمال فلسطين منطلقا للثورة في الداخل وعمل المستحيل لاغراء الفتحاويين الاوائل لبناء قواعدهم الاولى فيه، واسس اولى معسكرات التدريب في ظلال زيتون قباطية واحراش يعبد وجنين. وهناك استقبل اولى شحنات السلاح من خارج فلسطين ووزعها على الفلاحين دون تمييز. جال شوارع المدن وأزقة القرى الفلسطينية وقال للناس كلمات بسيطة “فلسطين ضاعت بالسلاح ولا تعود الا بالتضحية والكفاح”. كان اعتزازه بفلسطينيته بلا حدود، وكان ايمانه راسخا بان “الارض لا تفلحها الا عجولها”، وكان مقدما لدرجة التهور في فلاحتها. طارد قوات الاحتلال وعملائها حيث استطاع، ولم تقصر هي الاخرى في مطاردته فاختفى في احضان ارضه التي عشقها ووسط شعبه الذي نذر نفسه لقضاياه.
منذ انخراطه في الثورة كان يميز بين ابنائها وبين فصائلها وكان الوفاء لفلسطين ارضا وشعبا مقياسه الوحيد. ميز بين المقاومة القائمة على العلم والاخلاص عن تلك التي يقودها الجهل والارتزاق. ميز بين الوفاء لفلسطين والوفاء لحزب او زعيم. غادر ارضه لشحن ما امكن من السلاح من الخارج للداخل، ولتعلم فنون القتال. في الاغوار الاردنية توطدت علاقته بقيادة فتح الاولى وكانت علاقته مع بعضهم مميزة وبخاصة مع ابوجهاد وابواياد وابو الهول. وهناك بنى محطته الاولى واسس قاعدة الاسناد التي منها حمل السلاح على ظهره العريض وقاد رفاقه المسلحين العائدين الى ارضهم لتحريرها. في الكرامة استبقاه رفاقه عام 1968 ليتابع معهم مهمة تغذية انوية التنظيم في الشمال بالكادر وبالسلاح. في حينه قبل المهمة على مضض، وسرعان ما تمرد لاحقا على القرار، واختفى عن الانظار اكثر من مرة وكان يظهر مرة في نابلس واخرى في الحفاير وثالثة بين ربعه في قرية من قرى الشمال ورابعة في الاحراش وتحت شجرة الزيتون العتيقة “الرومية” التي احبته وأحبها واستظل بها في الليل والنهار.
احب ارض بلاده وكره البقاء خارجها لكن الاقدار فرضت عليه التنقل ربع قرن بين الاردن وسوريا ولبنان ورومانيا وليبيا. في اغوار الاردن عرفته عن قرب كرفيق سلاح. كان مباشرا وصريحا في طرح افكاره، صارما لا يحب المجاملة ويكره التزلف والرياء. وكان عنيدا في الدفاع عن آراءه وقناعاته. لا يهتم بصغائر الامور ويكره شخصنة النضال. تميز بميدانيته وبقدرته الخارقة على تجنيد الناس في صفوف الثورة وفي تعبئة المقاتلين بحب الوطن والتضحية من اجله. بعد رحيل الثورة من الاردن الى لبنان ادرك خطّاب قيمة التعبئة المعنوية للكوادر والمقاتلين فانخرط في مفوضية التوجيه السياسي لقوات “العاصفة”، واشرف على مجلة “صوت العاصفة” وتحمل مسؤولية مدرسة تاهيل الكادر الفتحاوي في لبنان، وصار عضوا في المجلس الثوري لحركة فتح، ولم تغيره المناصب المسؤوليات وظل متواضعا يمتاز بالوفاء للاصدقاء. كان رائدا من رواد الوحدة الوطنية ومدافعا ببسالة عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني. آمن بدور الجماهير العربية في دعم واسناد النضال الفلسطيني، ولم يتوانى لحظة عن شحن قواعد وكوادر فتح بهذه المبادىء الثورية، وبث فكره في كل اتجاه، وكان من ابرز المدافعين عن بناء علاقة مبدئية كفاحية مع قوى حركة التحرر العربي ومع الحركة الوطنية اللبنانية، وناضل بقوة من اجل احترام قرارها وعدم تكرار اخطاء الثورة في الاردن. وهناك في البقاع والعرقوب جنوب لبنان توطدت علاقتنا الكفاحية اكثر فاكثر وسقطت الحواجز الشخصية والتنظيمية بيننا. وارتفع مستوى التعاون والتنسيق بين قوات فتح وقوات الجبهة الديمقراطية التي كنت اتولى مهمة قيادتها. بعد الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 وتشتت قوات منظمة التحرير في عدد من الدول العربية انتقل خطّاب للعمل في الحقل الدبلوماسي الفلسطيني. وعمل مديرا لمكتب منظمة التحرير في عمان ومن ثم سفيرا لفلسطين في رومانيا وبعدها مثّل منظمة التحرير في ليبيا. لم يكن دبلوماسيا ولم يحب يوما العلاقات الدبلوماسية بين البشر لكن صراحته ومبدأيته جعلته من خيرة الدبلوماسيين الثوريين، ونجح في تعزيز مكانة قضية شعبه ووحد ابناء فلسطين حيث تواجد. أبلغته يوما باننا نجحنا في شحن السلاح للداخل فقال وزعوه على الفلاحين وادفنوه في الارض ينبت حرية ويثمر استقلال.
مع انطلاقة الانتفاضة في الضفة والقطاع انتفض خطّاب وثار ثورة جديدة وعادت له حيوية الشباب، وانطلق من بعيد في حركة دائمة لدعم الانتفاضة دون كلل او ملل. حمل قضاياها وهمومها وصمم على النجاح في دفع القيادة الليبية لتقديم الدعم المادي والمعنوي لها. لم يكن يهمه طرق تقديم المساعدات للانتفاضة فالاهم هو ضمان وصولها للاهل ولاصحابها المحتاجين. تحدث مع القيادة الليبية بجرأة ووضوح حول حق الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع في النفط الليبي وكل النفط العربي ونجح بامتياز، وحصل على قرار بدعم ليبي مهم للانتفاضة عبر قنوات منظمة التحرير. كان خطّاب صلبا صلابة صخور جبال فلسطين وصلابة خشب سنديانها وزيتونها وبلوطها الا انه لم يستطع الصمود امام فجيعة استشهاد قائده ابو جهاد يوم 16نيسان 1988، في حينه هزه الحدث وبكى رفيق دربه وكان بكائه احر واصدق من بكاء الاطفال الصغار، وذات الشيء حصل يوم ابلغوه “15/1/” 1991″ نبأ اغتيال ابواياد ابو الهول ابو محمد. رافقته في رحلة برية من طرابلس الى تونس للمشاركة في تشييع ابواياد ورفاقه الشهداء وعلى الطريق قال “الصفعة التي لا يرد عليها تتضمن دعوة لتكرارها”.
واليوم في ذكراه الخامسة نفتقد خطاب ونفتقد معه المواقف “الخطّابية” المبدئية الجريئة. فنحن في امس الحاجة لها لبناء ما تم تحريره من الارض الفلسطينية، واستكمال تحرير ما لم يتحرر منها، ولصنع مستقبل واعد لاطفالنا. وبحاجتها ايضا لحماية كرامة الشهداء وصيانة تاريخهم وتاريخ الثورة. ومواجهة المنافقين والمتسلقين الذين صعدوا في غفلة من الزمن ونراهم يحاولون سرقة بعضا من هذا التاريخ وتزوير بعضه الآخر.