ذكرى أوسلو محطة لمراجعة الحسابات الفلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 26/08/1998
في 13 أيلول 1998مرت الذكرى الخامسة لاتفاق “أوسلو”، الذي تم التوصل له سرا بمساعدة نرويجية محدودة، بين قيادة م ت ف برئاسة ياسرعرفات، والحكومة الاسرائيلية برئاسة رابين. في حينه فاجأ الطرفان شعبيهما ودول المنطقة والعالم باتفاقهما على “إعلان مبادئ” لتسوية نزاعهما المزمن. وبصرف النظر عن رأي مؤيديه ومعارضيه في مسيرته وفي مستقبله، فوقائع الحياة اكدت بانه مثّل نقطة فاصلة بين حقبة قديمة عاشتها المنطقة وأخرى جديدة لا تزال معالمها في طور التشكل والتكوين. ومسار حركة التاريخ يؤكد بأن إنتقال الشعوب من حقبة تاريخية الى أخرى نوعية جديدة يستوجب المرور في مرحلة أو مراحل إنتقالية يتخللها جذب وصراع بين الماضي القديم فكرا وأدوات، وبين القادم الجديد بفكره والقادرعلى خلق أدواته، وايجاد جميع المستلزمات الضرورية لفرض الذات.
منذ اليوم الاول للاعلان عن وجوده أثار إتفاق أوسلو عاصفة قوية من ردود الفعل على عدة مستويات دولية وعربية وفلسطينية. تراوحت بين الترحيب بالاتفاق والتأييد والترقب، وبين المعارضة الشديدة له. ورصد سيرة حياته يؤكد حصوله وحصول أصحابه، في المراحل الاولى من عمره، على صنوف من المديح الشعبي، وعلى تقدير القوى الاقليمية والدولية الراغبة في صنع السلام في الشرق الاوسط. وبعد الشروع في تنفيذه، ودخول القيادة الفلسطينية وأجهزتها الاراضي الفلسطينية، تعززت مكانته عند الفلسطينيين وبخاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وزادت نسبة المؤيدين له. وبنيت عليه آمال كثيرة. وبعد فوز حزب الليكود في إنتخابات صيف 1996 أصيب الاتفاق ومهندسيه ومناصريه بنكسة كبيرة. وفقد كثير من الفلسطينيين ثقتهم في صموده في مواجهة نوايا اليمين الاسرائيلي ورغبته في قتله والتخلص منه. وبعد تعقد مسيرة السلام وتعطل تنفيذه كثر الحديث في الاوساط الشعبية الفلسطينية حول سلبياته وراح البعض يتحدث عن الاضرار التي ألحقها بالوضع الوطني وبالقضية الوطنية الفلسطينية. وبرزت شكوك كبيرة في كل قصته وأعتبره البعض مصيبة كبرى. وزاد قلق أنصار حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بالطرق السلمية حول مستقبل الاتفاق وحول مصير الانجازات التي حققها.
وإذا كان من السابق لأوانه إصدار حكما نهائيا جازما على الإتفاق وعلى مواقف مختلف القوى منه، فالمصالح الوطنية الفلسطينية والقومية العليا تفرض، في ذكراه الخامسة، على البحاثة والمفكرين الفلسطينيين والعرب، فتح كشف حسابه بمسئولية وطنية مجردة من النزعات والرغبات الذاتية، وإجمال ما له وما علية بموضوعية متحررة من المواقف المسبقة. فمثل هذه العملية الحسابية ضرورية لإصدار حكم تاريخي عادل عليه وعلى صّناعه، وتحديد أسس التعامل معه خلال الفترة القصيرة الباقية من عمره الرسمي. والتعرف مبكرا على مصير المرحلة الانتقالية التي أسسها. وتحديد التوجهات الضرورية للمحافظة على الحقوق الفلسطينية التي حققها الاتفاق وتلك التي ما زالت قيد التحصيل. والإجابة على الأسئلة القديمة والجديدة المطروحة حوله : هل كان “اوسلو” مولود شرعي وكانت ولادته طبيعية ؟ وهل قرب الفلسطينيين من أهدافهم وقرب منطقة الشرق الاوسط من السلام الدائم وكان أفضل الممكن بلوغه؟ وما هو مصير الإتفاق وتوابعه ونتائجة بعد إنتهاء مفعوله في 4 أيار 1999..الخ. سلفا لا بد من القول بأن التباين الفلسطيني حول إتفاق اوسلو وما تلاه من إتفاقات وإجراءات على الارض طبيعي وصحي تماما. فكلا وجهتي النظر المؤيدة والمعارضة عندها ركائزها النظرية والعملية التي تسندها، وعند أصحابها أسلحة فكرية وسياسية ووقائع عملية تمكنهم من الإستبسال في الدفاع عن مواقفهم. واذا كان تقويم الكائنات الحية يبقى ناقصا اذا لم يتابع المرء حياتها، فبالدراسة الموضوعية المجردة من الرغبات الذاتية ومن المواقف المسبقة يمكن التعرف مبكرا على جوانب رئيسية من حياتها ومستقبلها ومصيرها النهائي.
المولود شرعي والولادة طبيعية
في العمل السياسي والدبلوماسي كثير من القضايا المفصلية والحساسة يتم التعامل معها باعتبارها أسرار دولة، وتبقى عادة طي الكتمان فترات طويلة. بعضها يكشف عنها بعد سنوات، وبعضها قد يموت مع موت صّناعها. أعتقد ان هذة القاعدة تنطبق على بعض جوانب المفاوضات السرية الفلسطينية الاسرائيلية التي تمت في أوسلو. فأعضاء القيادة الفلسطينية وأعضاء “الخلية” الفلسطينية التي قادت المفاوضات، لا يعرفون بالضبط متى وكيف إتخذ القرار في إسرائيل بفتح الحوار مع قيادة المنظمة. وبعيدا عن التفسيرات البوليسية التي يطرحها بعض خصوم الاتفاق حول “قصة أوسلو” من أولها لآخرها، فوقائع الحياة كشفت عن تسلسل منطقي لأحداث وتطورات سياسية اقليمية ودولية فرضت على الطرفين الإنقلاب على مفاهيمهم وقناعاتهم التي آمنوا بها سنوات طويلة، وأوصلتهم الى طاولة المفاوضات في مدريد. ومنها إنطلقوا للمفاوضات السرية في أوسلو، بعدما إكتشفوا بأن “طريق مدريد ـ واشنطون” شبه مقفلة، ولا توصل للاتفاقات المطلوبة في الوقت المطلوب. وان الوفد المفاوض غير قادر على تقديم التنازلات اللازمة للتوصل للاتفاق.
وإذا كان التاريخ وحده هو الذي سيجيب بدقة وبصورة شافية وافية على كل الأسئلة المتعلقة “بأوسلو” ، فالقيادة الرسمية للمنظمة مقتنعة بأن أبوعمار وعدد محدود من مساعديه نجحوا في فرض م. ت. ف كمفاوض رئيسي. وأرغموا القيادة الاسرائيلية على التفاوض معها والاعتراف بها كممثل للشعب الفلسطيني وتوقيع اتفاق رسمي معها. وتجزم بأن اللقاء الأول بين “أبوعلاء” و”هيرشفيلد” و”بوندك” في لندن تم بالصدفة. ومهما كانت الحقيقة، فالثابت هو: أن رابين بعد فوزه في الإنتخابات صيف 1992وتوليه رئاسة الحكومة، وجد نفسه أمام صراع مزمن لم تحله الحروب، إنتفاضة مستمرة، قيادة فلسطينية تقترب من الواقعية وتبدي استعدادا للدخول في مساومة تاريخية، ادارة أمريكية راغبة في تواصل المفاوضات وفي ايصالها الى نتائج ملموسة، ومفاوضات اسرائيلية فلسطينية واسرائيلية عربية متعثرة، وتدور في حلقة مفرغة. كانت اسرائيل ترفض التفاوض مع المنظمة، والوفد الفلسطيني المفاوض من الداخل، برئاسة د حيدر عبد الشافي، يصرعلى دور المنظمة ويقول بصوت عال، “على كل من يرغب في التوصل الى إتفاق مع الفلسطينيين أن يتوجه مباشرة نحو م ت ف ويجلس مع قيادتها”. أمام هذا الموقف، وتحت تأثير موقف الناخب الاسرائيلي الذي إنتخبه على أساس الوصول الى سلام مع العرب، حاول رابين كسر الجمود في مفاوضات واشنطن وقدم اغراءات لوفد الداخل، عله يقبل تجاوز المنظمة ويعفيه من الجلوس معها وجها لوجه. الا أن الوفد المفاوض رفض الاغراءات، ولم يكن أبوعمار غافلا عما يدور، بل كان واقفا للوفد ولرابين بالمرصاد. بعدها تردد رابين وحاول المراوغة فتقدم بيريز وطاقم الخارجية الاسرائيلية بقيادة يوسي بيلن باتجاه جس نبض المنظمة واستطلاع مواقفها. وتؤكد الوقائع بأن حكومة رابين أمنت شرعية وقانونية ذهاب ممثليها سرا الى أوسلو للتفاوض مع المنظمة. فقبل وصول هيرشفيلد وبونداك الى هناك يوم 20 كانون الثاني 1993 ألغى الكنيست حظر الاتصال مع م ت ف. وعندما التقطت السنارة الاسرائيلية طرف الخيط الفلسطيني حاول رابين الهروب من شر التفاوض مع المنظمة ومع ياسرعرفات، لكنه لم يفلح ولا حقا لم يصمد طويلا. وبعد عدة شهور من المفاوضات السرية أصبح أحد أبطال قصة الاتفاق السري الذي عرف باتفاق اوسلو ونال مع بيريز وأبوعمار جائزة نوبل للسلام، ولاحقا دفع حياته ثمن ذلك. وبصرف النظرعلى الطريقة التي أدارت فيها “الخلية” الفلسطينية المفاوضات في اوسلو فالاتفاق مولود شرعي ولد بصورة طبيعية تماما. فالمفاوضون والموقعون على الاتفاق من الطرفين يمثلون شعبيهما تمثيلا رسميا. وحصلو على مصادقة مؤسساتهما التشريعية عليه. صحيح بان الإتفاق وجد عند الطرفين من توعده وتوعد موقعيه بالقتل والاغتيال، الا أن أغلبية الفلسطينيين والاسرائيليين تقبلوه عند الولاده، ووفروا له هم وعديد القوى الدولية المقررة، عناية فائقة ورعاية عالية وحماية قوية، ومناخا ملائما مكنته من النمو بتسارع شديد، ومكنته من تحقيق نتائج مذهلة باتت بمثابة حقائق موجودة على أرض الشرق الأوسط، كان بعضها حتى فترة قريبة شبه مستحيل وضربا من دروب الخيال الشرقي.
عمره قصير لكن مردوده كبير
مهما كانت دوافع الآراء التي أيدت أوعارضت أو تحفظت على الإتفاق فوقائع خمس سنوات من عمره أكدت أنه نجح في أدخال شعوب المنطقة أعتاب مرحلة جديدة إختلفت نوعيا عن المراحل السابقة التي مروا بها. وكان أشبه بزلزال قلب أوضاع المنطقة رأسا على عقب، وهز أوضاع أهلها وبخاصة الاسرائيليين والفلسطينيين هزة عنيفة لم تهدأ للآن. وبصرف النظر عن مستقبله فقد أحدث خلال عمره القصير، تغييرات نوعية في أسس علاقات اسرائيل بالمنظمة ومعظم الدول العربية. وثبتت نقاط أساسية و فرعية كثيرة لصالح هذا الطرف وذاك، ليس سهلا نسفها أو الغائها. لا مصلحة فلسطينية أو عربية في تجاهلها وإنكار وجودها خاصة وأن بعضها تحول الى حقائق راسخة، دخلت صلب حياة وعلاقات دول وشعوب المنطقة.
حقا لقد تعرض الاتفاق لمحاولات إغتيال متعددة، وعاني في حياته الكثير من الأزمات القاتلة. بعضها جاء من صّناعه ومن المؤمنين بالسلام وبعضها الاخر تم على يد أعدائه الا أنه استطاع الخروج سالما، ونجح في فرض مفاهيم جديدة وخلق وقائع وحقائق كثيرة. فقد ساهم الإتفاق في تكريس حل الصراع بالطرق السلمية. وأنهى لإشعار آخر أفكار الحرب، وأفكار اللاحرب واللاسلم، التي كانت سائدة في فترة الحرب الباردة. والتي لم يحصد منها العرب سوى الفقر والتخلف وضياع الوقت، وتعطيل الديمقراطية، وسيادة الاحكام العرفية. وعزز النهج السلمي الذي سلكته مصر منذ توقيعها اتفاقات كامب ديفيد عام 1979. وسهل على الأردن الوصول الى معاهدة سلام الأردنية مع الإسرائيليين التي وقعت في وادي عربه عام 1994. وهو ومعه المعاهدة الاردنية أنهيا الأفكار التي كانت تنادى بها بعض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة من نوع الترانسفير للفلسطينيين من الضفة الغربية الى الاردن، وتحويل الأردن وطن بديلا للفلسطينين. وأنهيا فكرة الخيار الأردني لحل القضية الفلسطينية التي كانت تتبناها أوساط حزب العمل وفي الإدارة الأمريكية وبلدان أوروبا الغربية. وبعد “أوسلو” وإتفاق “وادي عربة” نظم الأردن شبكة علاقاته على أساس هذين الاتفاقين. وركز همومه على تصليب أوضاعه الداخلية وتطوير قدراته وحماية وجوده في حدوده الحالية. وتشكلت أرضية واضحة لبناء علاقة فلسطينية أردنية شبه متكافئة ومستقرة على أسس سليمة.
ولا أحد يستطيع إنكار بأن قبول القيادة الاسرائيلية التفاوض مع ممثلي الشعب الفلسطيني ثبّت الخيار الفلسطيني طريقا رئيسيا، إن لم يكن الوحيد، لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المزن، بعدما كان مرفوضا رفضا مطلقا. وأن الإعتراف الاسرائيلي بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، وتوقيع اتفاقات معها، دفن الخيار العربي وأقفل الطريق أمامه في حل المسألة الفلسطينية. وبعد الاتفاقات والخطوات العملية الكبيرة التي تمت على الأرض لم يعد بالامكان إعادة اوضاع الضفة وقطاع غزة الى ما كانت عليه قبل عام 1967، أي إلحاق الاولى بالأردن والثانية بمصر. ولم يعد هناك مجال للتعاطي أردنيا أو فلسطينيا مع الافكار الاسرائيلية التي كانت تدعو الى إجراء نوع من التقاسم الوظيفي للضفة الغربية وشعبها، بحيث تأخذ اسرائيل الأرض وتترك للاردن إدارة حياة السكان. فالاتفاق لا يسمح بذلك والاردن لم يعد يفكر بالموضوع.
ولا يستطيع ألد أعداء وخصوم الاتفاق تجريده من انجاز نقل مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج للداخل. ولا يمكن إنكار القيمة العملية والمعنوية لنقل القرار الفلسطيني من العواصم العربية للمدن الفلسطينية. وحل معضلة انفصال القيادة الفلسطينية عن شعبها. فهذه التطورات النوعية صححت وضعية الهرم الفلسطيني الذي ظل مقلوبا على رأسه منذ تشكيل م ت ف عام 1964 وانطلاق الثورة المسلحة عام 1965. وعززت استقلالية القرار الفلسطيني. وأحدثت تطورات نوعية على بنية منظمة التحرير، وفي علاقات قواها بعضها ببعض. وهزت مفاهيم وأوضاع القوى الوطنية الفلسطينية هزة عنيفة. وعزلت القوى الفلسطينية المرتبطة بالانظمة العربية “منظمة الصاعقة المرتبطة بسوريا، الجبهة العربية الموالية للعراق، فتح الانتفاضة المرتبطة بالسوريين والليبين” وأضعفت دورها في الحركة الفلسطينية، وأفقدتها تأثيرها المحدود اصلا، على القرار الفلسطيني. اما فصائل م ت ف فقد أدى الاتفاق الى تقلص وتراجع فعل بعضها وضعف وزنها السياسي والجماهيري لدرجة تقترب من التلاشي، وبعضها الآخر صعد دوره وكبر حجمه. وهناك من لم يوفق للآن في تأمين الاستقرار الفكري والسياسي والتنظيمي الضروري لقيامه بدوره.
الإتفاق نسف فكرة أرض الميعاد
وبصرف النظر عن مواقف اليمين الإسرائيلي التي تعتبر الضفة الغربية “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، فأوسلو وما إنبثق عنه من إتفاقات ومن خطوات عملية ملموسة على الأرض أنهى رسميا هذه المقولة التي بنت عليها الصهيونية إستراتيجيتها. وثبت الوحدة الجغرافية والسياسية للضفة والقطاع. ووضع القيادة الاسرائيلية وجها لوجه مع الحقيقة الفلسطينية التي تهربت منها أكثر من أربعين عاما. فإعترفت بأن هناك شعب إسمه الشعب الفلسطيني، وأن لهذا الشعب ممثل شرعي ووحيد هو م ت ف، وله “سلطة حكم ذاتي” تقرر شؤون حياته بمعزل عن التدخل الإسرائيلي المباشر. وأقرت بوجود كيان خاص على ذات الأرض، للشعب الذي أعتبر لفترة طويلة شعبا زائدا. وسلمت بسيادته على أجزاء من أرضه، وبسيادة ناقصة على أجزاء أخرى. فالاتفاق نص على “ان هدف المفاوضات ضمن عملية السلام هو من بين أمور أخرى إقامة سلطة حكومة ذاتية إنتقالية فلسطينية ـ المجلس المنخب ـ للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة إنتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، وتؤدي الى تسوية تقوم على أساس قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338″. وأكد في نص آخر على “تبدأ فترة السنوات الخمس الإنتقالية فور الإنسحاب من قطاع غزة ومنطقة اريحا”.
وموضوعية التقيم تفرض الاقرار بأن “أوسلو” حرر أقسام هامة من الأرض من الاحتلال، وأزاح جزئيا كابوسه وقهره عن كاهل أقسام واسعة من الفلسطينيين. ومكّن قرابة ثلاثين ألف كادر فلسطيني مع عائلاتهم من العودة الى وطنهم. وأحيا قضية النازحين الذين غادروا مكرهين بيوتهم وممتلكاتهم في حرب 19767. وثبت إقرار اسرائيل بحقهم في العودة وجعلها قضية رئيسية مطروحة على جدول أعمال المفاوضين للتنفيذ ولو بعد حين.
ولا يستطيع ألد أعداء الاتفاق تلبيسه تهمة اغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع من أجل تحقيق كل حقوقه الوطنية الكثيرة المغتصبة. فالتجربة إنصفت هذه الحقيقة، وبينت أن تأجيل بحث بعض المسائل لا يعني التنازل عنها وضياعها، اذا وجدت من يتابعها. وبجانب ذلك ساهم الاتفاق بصورة واخرى في تحرير ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة والقطاع، وغيّر أوضاعهم ونقلهم للحياة الكريمة في ظل السيادة فلسطينية، وأزال عنهم الكثير من منغصات الإحتلال. وبنى لهم كيانهم الخاص على “28%” من أرضهم. وكيانهم صار له “برلمان” وله “وزارة” وجهاز إداري قوامه أكثر من 100 ألف موظف ثلثهم قوة أمنية مسلحة، شرطة ومخابرات. وامتلك الشعب والكيان كل القضايا الرمزية الضرورية لتميزه عن سواه ولبلورة هويته الوطنية، علم، ونشيد، وجواز سفر، وإذاعة وتلفزيون.
وإذا كان عدد من زعماء العالم إحتفلوا يوم 13/9/93 في حديقة البيت الأبيض بالنجاح الذي حققته الإدارة الأمريكية في المنطقة، فأعداء الشعب الفلسطيني وألد أعداء “أوسلو” لا يستطيعون إنكار بأنه كان أيضا إحتفال بالمولود الجديد. وجديد “أوسلو” كان الإعلان الرسمي عن “قيام سلطة فلسطينية إنتقالية” على جزء من الأرض الفلسطينية، وتعهد أمريكا الراعية للإتفاقات والمهيمنة على السياسة الدولية، ومعها أربعون دولة تمثل القارات الخمس، بدعم الكيان الفلسطيني ومساعدته ماديا ومعنويا. وما عداه كان تكرار لأمور قديمة، وتثبيت لقضايا موجودة منذ سنين طويلة. فالإعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل لم يضف جديدا للواقع الموجودة في المنطقة. وبعد تنفيذ ما نفذ من أوسلو أصبح الكيان الفلسطيني حقيقة قائمة ضمن حقائق الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية، لا يمكن لأحد إنكار وجودها.
وإذا كان من الضروري تعريف الكيان الذي خلقه إتفاق أوسلو وتسميته بإسمه الحقيقي، فهو الآن حكم ذاتي في صيغة “دويلة فلسطينية” على جزء هام صغير من الأرض الفلسطينية. ناقص السيادة، محدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور بسرعة، إذا أجاد الفلسطينيون إستغلال المواقف الدولية المؤيدة لحقهم في الحرية والإستقلال. ونعت الكيان الفلسطيني الآن بابشع النعوت والصفات من نوع، كيان أوسلو، دويلة مسخ، دويلة هزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة سياسياً واقتصادياً وأمنياً لإسرائيل..الخ لا يقلل من قدرته على التطور لاحقا الى دولة، ولا يلغي حقيقة وجوده ككيان منفصل سياسيا وجغرافيا عن إسرائيل، وعن الدول الأخرى المجاورة له والمحيطة به. فاتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقات أخرى لم تلغ هذا الخيار، ولم تقفل الطريق أمامه. ومقومات وشروط الدولة سوف تزيد في المستقبل أكثر فأكثر إذا تم تنفيذ المرحلة الثانية من إتفاق إعادة الإنتشار. فالإنسحاب من 9 ـ10% من مساحة الضفة الغربية، كما تعرض الحكومة الاسرائيلية على الفلسطينيين، تعني أن يصبح 93 % من الفلسطينيين في الضفة والقطاع تحت السيادة الفلسطينية. وإعادة الإنتشار من13,5% من مساحة الضفة الغربية، كما إقترحت الادارة الامريكية، فيعني رفع نسبة منهم تحت السيادة الفلسطينية الى 94,5% من إجمال السكان. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف على أن كل تحرير إضافي للانسان الفلسطيني، وكل إنسحاب جديد مهما كانت نسبته، وكل مؤسسة تشريعية او تنفيذية او مالية وادارية تبنى، تزيد من الحقائق التي تؤدي الى دولة.
ومهما كان الخيار الذي سترسو عليه مواقف القيادة الإسرائيلية من مسألة تنفيذ إعادة الإنتشار والإنسحاب، فالثابت أن التمسك باتفاق اوسلو وبتنفيذ الاتفاقات الموقعة، ولو بالتقسيط وعلى دفعات متأخرة، ونجاح السلطة الفلسطينية في النهوض بمهـامها، عوامل تساعد على إبعاد خيار تجميد الأوضاع تحت سقف الحكم الذاتي، وتقرب الفكر الاسرائيلي من التعاطي مع خيار الدولة المستقلة. ولا يستطيع أشد معارضي أوسلو تجاهل دوره في خلق خلافات جوهرية وتفجير صراعات حقيقية داخل المجتمع الأسرائيلي حول المسألة الفلسطينية. ورغم كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها على “اتفاق اوسلو” فقد أصبح قضية صراعية حقيقية بين الاحزاب الاسرائيلية، وسيبقى الموقف منه ومن مستقبل الأراضي الفلسطينية عنصران محركان للحياة السياسية الاسرائيلية لمرحلة طويلة لاحقة. لاسيما وأن معارضة اليمين الاسرائيلي للإتفاق معارضة إستراتيجية، فهو في نظرهم ضرب ركنين أساسين من أركان عقيدتها هما أرض الميعاد والعودة اليها وإستيطانها.
وبالمقابل لا يستطيع اشد المتحمسين لاتفاق اوسلو انكار بانه اعطى للقيادة الاسرائيلية سلفا ثمن مشاركتها في عملية السلام. فالاتفاق كرس في العامين استراتيجية الحكومة الاسرائيلية القائمة على الاستفراد بالاطراف العربية والوصول الى حلول ثنائية مع كل طرف على انفراد. وساهم في انفتاح اسرائيل اقتصاديا وسياسيا على العديد من الدول العربية. وسهل عليها استعادة علاقتها السياسية مع معظم الدول الاسلامية والافريقية. وساعدها في مسح الصورة التي تشكلت عنها وبخاصة خلال الانتفاضة كدولة عنصرية عدوانية تمارس الارهاب ضد الاطفال والشيوخ والنساء. وضمن الاتفاق لاسرائيل الاعتراف الفلسطيني العربي بحقها في الوجود. وأوجد قوة فلسطينية تلتزم الحفاظ على امنها وامن مواطنيها بما في ذلك المستوطنيين الذين ينادون ويعملون صباح مساء ضد تنفيذ اتفاق اوسلو وينكرون على الفلسطينيين حقوقهم التي اعترف بها. ويجب الاعتراف بان اسرائيل قبضت من البداية ثمن مشاركتها في عملية السلام وقدمت وعودا بدفع استحقاقاتها لاحقا وبالتقسيط. وفرضت الصيغة التفاوضية التي ارادتها بما في ذلك حرمان رعاة المفاوضات ودول العالم المحبة للسلام من اي دور مساعد. وتقسيم الحل مع الفلسطينيين الى مرحلتين. تأخذ هي في الاولى كل مطالبها الامنية والسياسية كاملة وتدفع استحقاقاتها على دفعات متباعدة وبالتقسيط.
الاعتراف بالخطأ فضيلة
وما حققه اتفاق أوسلو في حياته حتى الآن، يفرض الاعتراف بان انجازاته الفلسطينية لم تكن دون ثمن. وصنّاع الاتفاق واشد الناس حماسا له وللسلام بين الفلسطينيين والاسرائيلين لا يستطيعون الإدعاء بأن الاتفاق كان كامل الاوصاف ولم يكن بالامكان أن يكون أفضل مما كان. ولا يمكنهم القول بان “خلية أوسلو ” التي ادارت المفاوضات انتزعت أقصى ما أمكن انتزاعه. أو ان الحكومة الاسرائيلية العمالية قدمت اقصى ما استطاعت تقديمه. وأبرع المفاوضين الفلسطينيين لا يمكنه الادعاء بانه لم يرتكب أخطاء تفاوضية. وقيادة حزب العمل لا تستطيع التنصل من مسؤوليتها عن غياب قضايا جوهرية من الاتفاق أثرت على دوره، وعن الابطاء والتردد في تنفيذ الاتفاق، وتعبيد الطريق امام خصومه واعدائه من الاسرائيليين وسهلت عليهم انتزاع زمام المبادرة والقيام بانقلاب استراتيجي ضد السلام، وشن هجوم مضاد ناجح ضد الاتفاق. كما لا يمكن تبرئة ذمة الراعي الامريكي من دم الاتفاق الذي سال بغزارة في عهد الليكود، وعن المصير البائس الذي آلت اليه العلاقات. والقاء أنصار السلام اللوم على الظروف الموضوعية وتحميل العوامل الخارجية المسؤولية فيه هروب للامام لا يساعد على استخلاص الدروس المفيدة لمستقبل السلام بين الشعبين. والذكرى الخامسة لاوسلو مناسبة لقيام قوى السلام الفلسطينية والاسرائيلية بمراجعة مواقفهم والاعتراف بالاخطاء التي إرتكبوها، وساهمت في بقاء الانجازات التي حققتها توجهاتهم في حدود ما تم رصده. ومكنت خصومه وأعدائه من توجيه طعنات قاتلة له اقعدته عن الحركة منذ أكثر من عامين وذات الشيء ينطبق على رعاة اتفاق اوسلو وبخاصة الامريكيين.
بعد الاعلان عن الاتفاق ونشره على الملأ ظهرت في الساحة الفلسطينية ثلاثة إتجاهات رئيسية: أحدها أيد الاتفاق وأفرط في التفاؤل، واعتقد أصحابه بأن تقاطع المصالح التي أفرزت الاتفاق تدفع باتجاه الالتزام به والتسريع في تنفيذه. والثاني عارض الاتفاق وأفرط في التشاؤم ورفع شعار “اسقاط الاتفاق واسقاط نهج اوسلو”. وإعتقد بأن “الاتفاق ولد ميتا”، وأنه غير قابل للتنفيذ وانه “سيسقط خلال اسابيع او شهور معدودة كما سقط اتفاق “خلدة” اللبناني الاسرائيلي عام 1984″. ولاحقا أطلق أصحاب هذا الإتجاه على الإتفاق إسم “غزة وأريحا أولا واخيرا”. أما الإتجاه الثالث فظهر عند أهل الأرض المحتلة وتساءل أصحابه عن نصوص الإتفاق حول الإستيطان، والموقف من حقوق الإنسان واطلاق سراح المعتقلين، وقالوا العبرة في التنفيذ. والآن جاءت الوقائع لتؤكد بالملموس أن أهل الأرض المحتلة كانوا الأدرى بالأحتلال وسياساته، وأن تقييمهم كان الأكثر واقعية والأكثر دقة. وأن الآخرين من معارضين ومؤيدين فصائل وقوى وشخصيات وطنية واسلامية شطوا في تقديراتهم، ووضعوا أمنياتهم ورغباتهم محل التقييم الموضوعي. فالإتفاق من جهة بقي على قيد الحياة خمس سنوات نما وكبر خلالها، ومن جهة أخرى تعثرت المفاوضات حوله وحول ما أنتجه وتأخر تنفيذ العديد من بنوده.
ورغم نجاح الاتفاق في خلق حقائق كثيرة وكبيرة على الارض، ظل الاتفاق مدة خمس سنوات الاتفاق موضع جدل فلسطيني فلسطيني، وفلسطيني اسرائيلي، واسرائيلي اسرائيلي، أظنه لن يهدأ في المستقبل القريب. وبقي أنصاره وخصومه على مواقفهم، متمترسين في ذات الخنادق وخلف ذات المتاريس التي تمترسوا خلفها عند الاعلان عنه. وبين فترة واخرى تستذكر القوى الفلسطينية والاسرائيلية الإتفاق وتتناوله بصورة غير موضوعية ومن زاويا ضيقة تخدم وجه نظرها. وكأن التاريخ بعد اوسلو لم يتحرك، والاتفاق بقي جامدا في مكانه، ولم تتطرأ في سنوات حياته متغيرات في أوضاع وعلاقات أهل المنطقة. وكانها كانت كسابقاته، وكانت خالية من الأحداث. وظلت المعارضة الفلسطينية الوطنية والاسلامية متمسكة بمواقفها وبشعارها اسقاط اوسلو.ولم تفلح في الخروج من مازقها الذي وضعها فيه الاتفاق.
وعلى اية حال هذه ليست المرة الاولى التي تمتنع فيها القوى الوطنية والاسلامية عن مراجعة ونقد مواقفها السابقة بجرأة. لقد مرت على م.ت. ف والساحة الفلسطينية قبل “اوسلو” أحداث جسام هزت أوضاعها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، منها الحروب في لبنان، انشقاق وانقسام م ت ف، إنطلاق الانتفاضة وتوقفها، المواقف من المبادرات الدولية السابقة..الخ بعضها ألحق بالقضية الوطنية خسائر كبيرة، وكلها مرت عليها مرور الكرام. ولم يحاول أي من قوى الفلسطينية اجراء مراجعة موضوعية مجردة من المواقف المسبقة. ولم نسمع من أي منها نقدا ذاتيا جريئا. وكأنه معصوم عن الخطا. واليوم يتكرر ذات السلوك وذات المشهد من المهزلة. وهذا التكرار يبين بان المركزية الشدية غياب الاعراف والتقاليد الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية وطغيان دورالفرد على حساب دور المؤسسات هي التي مكنت وتمكن قوى الحركة الوطنية والاسلامية تمرير مواقفها الخاطئة دون مراجعة ودون محاسبة، وتمكنها من العمل بشعارات إستهلكتها الحياة.
“اوسلو” كان يمكن ان يكون أفضل
وبالمقابل لا يستطيع اشد المتحمسين لاوسلو انكار انه في الوقت الذي حرر القرار الفلسطيني من الضغوط والتدخلات العربية، أعفى العديد من الدول والحكومات العربية من مسئولياتها والتزاماتها القومية تجاه القضية الفلسطينية وحررها من التزامها الايجابي القديم “بقضية العرب المركزية”. ولا يستطيع انصار اوسلو تجاهل مدلولات وابعاد أعطائه القوى الدولية الكبرى “الدول المانحة” وبخاصة الادارة الامريكية دورا مؤثرا في تحديد التوجهات الفلسطينية. ومنحه ايضا إسرائيل حق التدخل في معظم الشؤون الفلسطينية الداخلية في المرحلة الانتقالية، والمشاركة في بلورة وصياغة قضايا وطنية كانت تعتبر قضايا داخلية وكثيرا ما رسم حولها خطوط حمراء.
وبجانب ذلك لا بد من رؤية بان اوسلو الذي أوجد للفلسطينيين كيانهم الخاص وأقام لهم سلطة وطنية، أسهم بصورة رئيسية في إضعاف وزن م ت ف سياسيا وجماهيريا وفي تفكيك بنيتها التنظيمية، وساهم في شل عمل مؤسساتها. وأضعف دورها ككمثل شرعي للشعب الفلسطيني وجعلها هيئة معنوية لا حول ولا قوة لها في تقرير مصير الفلسطينيين. وحتى لا نظلم “اوسلو” يجب الاقرار بانه لا يتحمل وحده كامل المسؤولية عن حالة التآكل والاهتراء التي تمر بها المنظمة. وان قيادة المنظمة بكل تلاوينها السياسية والتنظيمية شريك رئيسي في هذا الجرم الكبير. فالمنظمة مصابة بأمراض مزمنة قبل الذهاب الى مدريد عام 1991، وقبل التوقيع على اتفاق اوسلو في 13/9/ 1993، كان اخطرها طغيان الفصائلية على بنيتها وغياب الديمقراطية في علاقاتها الداخلية ومع الشعب الفلسطيني داخل وحارج الارض المحتلة، وتبقرط مؤسساتها وتحولها هياكل تنظيمية فارغة من أي مضمون. وكل الفصائل وكل القيادات الفلسطينية مسؤولة عن زرع هذه الامراض في جسم المنظمة. أما أوسلو فقد أضاف أمراضا جديدة وعمق الانقسام السياسي والتنظيمي الذي تعانيه منذ سنوات، واوصلها الى حالة من الشلل الكامل والاحتضار. وختم دوره وفعله السلبي في اوضاع المنظمة حين الزم قيادة م ت ف على الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني والغاء معظم بنود النظام الاساسي للمنظمة ولم يسمح لها بصياغة ميثاق ونظام جديدين يوحدان طاقات كل قوى الشعب في إطار تنظيمي وطني ديمقراطي موحد ويلبيان تطلعات الفلسطينيين في الداخل والخارج. وتجدر الاشارة الى ان بعض القيادات الفلسطينية اندفعت بعد اوسلو باتجاه تجيير دور ومهمات م ت ف لحساب السلطة الوطنية، انطلاقا من قناعة، اثبتت التجربة خطأها، بان قيام السلطة الفلسطينية يعني بداية نهاية المنظمة، وان السلطة الوطنية تمثل بديلها الشرعي القادر على القيام بكل مهامها وواجباتها. وجاءت وقائع المفاوضات ووقائع الحياة لتؤكد بان تمويت واضعاف المنظمة وتفكيك هيئاتها القيادية وشل دورها ولم يقوي السلطتين التشريعية والتنفيذية التين انبثقتا عن الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وان إضعاف المنظمة وسلبها مهامها الاساسية أبقي نصف الشعب الفلسطيني المقيم غي الخارج دون أي دور اتجاه قضيتة الوطنية. وأفقده من يهتم ويعالج قضايا اليومية المعقدة في الدول التي يعيش فيها.
ولا ناتي بجديد اذا قلنا ان اي اتفاق بين عدوين هو نتاج لموازين القوى بينهما لحظة التوصل للاتفاق. وان قوة الحجة ومهارة المفاوض والقدرة على الاقناع عوامل مساعدة مؤثرة في صياغة الاتفاق لا يجوز اسقاطها من الحساب. وبعد خمس سنوات من اوسلو لا بد من رفع الصوت والقول بان نصوص ونتائج اتفاق اوسلو كان بالامكان ان تكون أفضل. وان موازين القوى، رغم اختلالها الفاحش لصالح اسرائيل، كان بامكانها ان تعطي للجانب الفلسطيني، في مسائل جوهرية وأخرى فرعية، أكثر مما أخذ في نصوص الاتفاق. وكان بالامكان فرض نصوص وصيغ أكثر إلزاما في التنفيذ. وأن عدم تحقيق ذلك تتحمله الخلية المصغرة والقيادة الفلسطينية التي أدارت مفاوضات أوسلو وما تلاها من مفاوضات لاحقة.
فخلال سنوات عمر الاتفاق ظل موضوع الانسحاب موضع جدل بين المفاوضين الفلسطينيين والاسرائيلين، وظلت الحكومات الاسرائيلية تماطل وتعرقل وتعطل تنفيذ الانسحابات المقررة. وأعتقد انه كان بامكان المفاوض الفلسطيني انتزاع تحديد أفضل وأدق لمفهوم الانسحاب لو أصر على تضمين الاتفاق ما ورد نصا في برنامج حزب العمل وتصريحات زعمائه في تلك الفترة حول الموضوع. في حينه كان الانسحاب من قطاع غزة موضع شبه اجماع اسرائيلي وكان الانسحاب من غزة من جانب واحد، أحد الخيارات الاساسية للقيادة الاسرائيلية. وخلال مفاوضات واشنطن، وفي معرض استطلاع المواقف، سأل أعضاء من الوفد الاسرائيلي اعضاء في الوفد الفلسطيني: هل انتم مستعدون لاستلام قطاع غزة اذا انسحبنا منه؟ وعندما تم الرد على السؤال بسؤال، وماذا بشان وجود المستوطنيين والمستوطنات هناك ؟ كان الجواب عدد المستوطنون هناك أقل من عدد سكان “بلوك” من “بلوكات” أحد مخيمات غزة، وهم بحدود 3000 مستوطن، وبالامكان سحبهم خلال ليلة ظلماء وتحميلهم في قافلة واحدة. وتصريحات رابين الشهيرة في تلك الفترة التي تمنى فيها “غرق قطاع غزة في البحر” مؤشرعلى استعداد قيادة حزب العمل من حيث المبدأ الانسحاب من كل القطاع وانها لم تكن تفكر في تقسيمه الى ِِ B CِA ، ورابين لم يكن يقصد غرق سكان المستوطنات ومعها قوات جيشه المرابطة هناك في البحر، بل كان يفكر في سحبهم في ليلة ظلماء قبل ان يهيج البحر وترفع مياهه. وبينت المعلومات لاحقا بانه كان يفكر بصوت عال، وكان يهيئ الراي العام الاسرائيلي لتقبل خطوة الانسحاب اذا اضطر اليها. وحديث “حاييم رامون” عضو قيادة حزب العمل مع احد الدبلوماسيين الفلسطينيين تقطع الشك باليقين:
رامون : هل تستطيع التحدث مع عرفات على إنفراد ؟ الجواب: نعم. وهل لك أن تسأله لماذا لم يصر المفاوض الفلسطيني في أوسلو على سحب المستوطنيين من قطاع غزة، واخلاء المستوطنات من المستوطنيين ؟ كان لدينا قرار بسحبهم، اذا كان ذلك ثمن التوصل للاتفاق. وما حصل في موضوع الانسحاب حصل ما يشبهه في موضوع اطلاق سراح المعتقلين. فالاتفاق خلى من أي نص حول اجراءات متبادلة لبناء الثقة بين الطرفين. وتركزت كلها على ما يجب أن يقوم به الجانب الفلسطيني. علما بأن هذا الموضوع نال من النقاش ساعات وأيام طويلة خلال مفاوضات واشنطن، وعبر القنوات التفاوضية الفرعية التي كانت التي كانت مفتوحة بين الطرفين. وأعتقد انه كان بالامكان الاصرارعلى إدخال نصوص واضحة تعالج قضايا المعتقلين والمبعدين وهدم البيوت، خاصة بعد موافق المفاوض الفلسطيني على تأجيل بحث موضوع الاستيطان والمستوطنين. وبينت وقائع المفاوضات بأن الجانب الفلسطيني تصرف بحسن نية، ورضي بالوعود الشفية القاطعة التي قدمها الطرف الاخر حول الموضوع. وذات الشيء ينطبق على موضوع الاستيطان حيث بينت ووقائع الحياة بأن الوعود الشفوية غير ملزمة، والاعتماد على حسن نوايا قيادة حزب العمل والثقة بوعودها بوقف الاستيطان ألحق أضرارا فاحشة وفادحة بالجميع. واكدت بأن الاصرار على النص في الاتفاق على وقف الاستيطان واطلاق سراح كل المعتقلين كان يستحق صراعا فلسطينيا أقوى وأعنف حتى لو بلغ الامر حد تعطيل وتاجيل التوصل للاتفاق. واذا كان لا مجال في هذا المقال الدخول في بحث مفصل حول العوامل والاسباب التي دفعت الخلية الفلسطينية التي ادارت مفاوضات اوسلو للقبول بتجاوز هذه القضايا الاساسية وسوها، فلا شك في ان المبالغة في قيمة الاعتراف الاسرائيلي الرسمي بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطين، وفي قيمة توقيع الاتفاق معها كان له دوره في ذلك كله. ويمكن القول بان التسرع وقلة الخبرة في المفاوضات وحشرها بوقت زمني ضيق وإحاطتها بسرية شديدة أدت لهذه الاخطاء وسواها.
قيادة العمل مسئولة عن الانقلاب ضد الاتفاق
اثناء الاحتفال بالتوقيع على اتفاق اوسلو في حديقة البيت الابيض يوم 13/9/ 1993، قال بيريز للمفاوضين الفلسطينيين “علينا ان نستثمر المفاجئة قبل أن تستفيق المعارضة من هول الصدمة، وأن نكون كالطيارين الماهرين الذين يحلقون في أعالي السماء ويطيرون نحو أهدافهم بأقص سرعة”. وبمراجعة سريعة لمواقف قيادة حزب العمل من الاتفاق في عهدي بيريز ورابين يتضح بان مواقفهم خارج الحكم تختلف نوعيا عنها خلال وجودهم في السلطة.
ومن يراجع ما نشر من وثائق رسمية ومذكرات شخصية عن مفاوضات اوسلو وعن المفاوضات التي تمت في عهد رابين قبل اغتيالة وعهد بيريز من بعده بامكانه ببساطة تحميل قيادة حزب العمل كامل المسؤولية عن النواقص والثغرات الكبيرة والخطرة التي تضمنها الاتفاق عند ولادته. وعن اضعاف مصداقية الاتفاق عند الشعب الفلسطيني. ويمكنه ببساطة اتهامها بعدم الصدق في التعامل مع الطرف الفلسطيني، وقلة الامانة في تنفيذ نصوص الاتفاق. وبالتردد وعدم الحسم، ووضع مصالحها الحزبية الضيقة فوق مصلحة صنع السلام الحقيقي والعادل. وبانها سهلت الطريق أمام المتطرفين ليغتالوا ليس فقط رابين بل وايضا الانقضاض على نصوص وروح الاتفاق، والقيام بانقلاب ناجح ضد السلام مع العرب والفلسطينيين. حين هادنوا الفكر الصهيوني المتطرف، وتساهلوا مع الاحزاب والقوى العنصرية الاسرائيلية المتطرفة وطليعتهم المستوطنيين. وأعطوهم فرصة واسعة لتجميع قواهم ومنحوهم الوقت اللازم للتخطيط بهدوء لكل أعمالهم المعادية للاتفاق.
والكل يتذكرموقف رابين من مخططي ومنفذ مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف التي وقعت بعد التوقيع على اتفاق اوسلو في 15 “رمضان” شباط 1994. في حينه بدلا من الاندفاع في تنفيذ الاتفاق والتوجه لحل عقدة الخليل بمعاقبة المستوطنين وطردهم منها، عاقب أهل الخليل واستولى على قلب مدينتهم، وحشد المزيد من القوات العسكرية لقمع الفلسطينيين، وحماية المستوطنيين وثبت اقدامهم في عدد من أحياء المدينة. وبعد دخول قوات الشرطة الفلسطينية الى غزة وأريحا وقبل شروع حماس والجهاد الاسلامي في تنفيذ عملياها العسكرية، وجهت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ضربات قوية لاتفاق اوسلو، وعطلت تنفيذ العديد من بنود بروتوكولات القاهرة. وظهرت داخلها اصوات مهمة، كان أعلاها واقواها صوت اهود براك رئيس الاركان، شككت في امكانية تحقيق الحد الادنى من الامن للمستوطنيين في حال تنفيذ الشق الثاني من إتفاق أوسلو، ووضعت القيادة العسكرية حكومة رابين بين خيارين اما تأجيل تنفيذ الانسحاب وتاجيل اعادة الانتشار في الضفة الغربية، او إعادة النظر في انتشارالمستوطنات وفي حركة المستوطنيين على طرقات الضفة الغربية. وطبعا فضل رابين الخيار الاول على الثاني. ولاحقا وجد رابين في عمليات حماس والجهاد الاسلامي ذرائع ومبررات، وعطل تنفيذ الشق الثاني من اتفاق اوسلو فترة طويلة، ووافق على اقتراح القيادة العسكرية بتقسيم المرحلة الانتقالية الى مراحل متعددة وتقسيم اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة الى مناطق اطلق عليها A B C. وفي مرحلة حاسمة من عمر عملية السلام وعمر الاتفاق اعتقد بيريز وقيادة العمل بان التصلب في المفاوضات مع الفلسطينيين، والتشدد في موضوع الامن، والتساهل مع المستوطنيين، تساعدههم على تعزيز شعبية الحزب وتساعده على الفوز في الانتخابات التي تمت صيف 1996. لكن الرياح لم تجري كما كانت تشتهيها سفينة حزب العمل وسفن المؤيدين صنع السلام في المنطقة. فنتائج الانتخابات أكدت بأن أغلبية اليهود الاسرائيليين “60% تقريبا” غير ناضجة لصنع سلام حقيقي مع الفلسطينيين. ولم تجد في اتفاق أوسلو ولا في عملية السلام مع الفلسطينيين ما يطمأنها على مصالحها المباشرة والبعيدة. ولم تستطع التعايش مع روح الاتفاق ولم يهضموا نصوصه. ومع الإعلان عن فوز أحزاب اليمين القومي والديني في الانتخابات، وتشكيل حكومة يمينية متطرفة بقيادة تكتل الليكود، تبدلت لغة الكلام الفلسطيني والعربي المتفائل عن عملية السلام. وحل محلها نظرة سوداوية متشائمة حول مستقبل المفاوضات ومستقبل العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وحول مصير الاتفاقات التي تم التوصل لها في عهد حزب العمل. واعتبر البعض نتائج الانتخابات بمثابة انقلاب إسرائيلي أبيض ضد السلام مع الفلسطينيين، وضد التوجهات الدولية التي ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة وبخاصة الرغبة في حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية
قبل وبعد انتهاء مرحلة اوسلو
في الرابع من ايار القادم 1999 تنتهي الفترة الانتقالية التي حددها اتفاق اوسلو للحكم الفلسطيني الذاتي. ومن الان وحتى ذلك التاريخ يفترض ان ينتهي الطرفان من مفاوضاتهم حول قضايا الحل النهائي: القدس، الاستيطان، اللاجئين، الحدود، الترتيبات الامنية، العلاقات المستقبلية، والمياة. والمغفل سياسيا هو وحده من يعتقد ان بالامكان التوصل الى حلول مقبولة من الطرفان لهذه القضايا الشائكة والتي يعتبرها الطرفان مصيرية. ولا حاجة لان يكون الانسان نبيا او عبقريا حتى يقول بان شعوب المنطقة سوف تصل الى الرابع من ايار 1996 دون التقدم خطوة واحدة في معالجة قضايا الحل النهائي. وأن حالة الجمود التي تعيشها منذ أكثر قرابة عشرين شهرا سوف تستمر حتى أيار القادم وبعده. ومواقف الليكود العلنية والمضمرة تؤكد بان عملية السلام التي عرفناها قد انتهت، وستبقى المفاوضات اذا استؤنفت تدور في خلقة مفرغة، وتراوح بين الجمود الكامل وبين التحرك الشكلي دون معنى ودون نتيجة وبلا لون ولا طعم ورائحتها لن تكون عطره. والالتزام بتنفيذ بقية قضايا المرحلة الانتقالية أمر مشكوك فيه تماما. فحكومة الليكود متمسكه بموقفها القائم على رفض الدولة الفلسطينية وجعل الحل الانتقالي حلا نهائيا للقضية الفلسطينة، سقفه الاعلى حكم اداري ذاتي، ويفضل ان يبقى ناقصا. وتحاول انتزاع موافقة فلسطينية على مبادلة 10 ـ 13 % من أرض الضفة الغربية بكل الحقوق الفلسطينية التي تتضمنها قضايا الحل النهائي. أي التنازل عن القدس وحقوق اللاجئين وعن المياه وعن قرابة 60% من اجمالي أراضي الضفة الغربية. ولن يقبل نتياهو واركانه بسهولة الاعلان في العام القادم عن تحويل “دويلة الحكم الذاتي” الى دولة مستقلة. فهم يعتبرونها قضية مصيرية، ومسألة حياة أو موت لدولة إسرائيل، ويخطئ من يعتقد بان حكومة الليكود سوف تغير موقفها من الان وحتى ايار 1999.
ويخطأ اكثر من يعتقد بان الادارة الامريكية سوف تمارس ضغوطا فاعلة على نتياهو وحكومته من الان وحتى ذلك التاريخ. فادارة الرئيس كلينتون لديها همومها وشجونها الداخلية التي تشغلها عن قضايا المنطقة خلال العامين القادمين. وهمومها الكبيرة تدفعها الى مهادنة اللوبي الصهيوني الامريكي ومهادنة الكونغرس. والصمت عن مواقف الحكومة الاسرائيلية من عملية السلام قضية مفصلية في عملية المهادنة. ناهيك عن قناعة الادارة الامريكية بان اوضاع المنطقة لا تنذر بانفجار مشاكل جدية. وليس هناك ما يشير الى ان مصالحها يمكن ان تتعرض للخطر. اما المشاكل والضغوط الداخلية التي يمكن ان تتعرض لها حكومة الليكود بسبب جمود عملية السلام، واحتمال انفجار الاوضاع في الضفة والقطاع، ووقوع صدام عنيف مع السلطة الفلسطينية، فالظاهر ان نتياهو قرر سلفا معالجتها بكل الطرق الممكنة والمتاحة له ما عدا طريق التنفيذ الدقيق للاتفاقات. ومن غير المستبعد ان يلجأ الى الانتخابات المبكرة اذا تعرض لضغوط داخلية او خارجية واذا ضمن الفوز فيها. ولا مبالغة في القول بان فوز قوى اليمين الاسرائيلي مرة أخرى في الانتخابات، سواء تمت في موعدها او قدمت، يعني اغلاق كل النوافذ والابواب امام حل النزاع العربي الاسرائيلي بالطرق السلمية، وسيعيد الأوضاع الى أسوء مما كانت عليه قبل انطلاق عملية السلام، وستكون العداوة أكبر والحقد والكراهية أعمق، وسيؤجج الصراع في المنطقة. وستمتد نيرانـه بالتدريج إلى كل الدول والشعـوب المحيطـة بفـلسطيـن حتى لو كان لها مع إسرائيل معاهدات وإتفاقات سلام.
من البداهة القول ان بقايا الفكر الصهيوني اليميني العنصري الاستعماري التوسعي، يحاول جاهدا تأخير حركة التاريخ وإعادة عقارب ساعة الزمن إلى الوراء. واستمرار هذا الفكر مؤثرا في المجتمع الإسرائيلي، ويسيطر على القرار السياسي الرسمي، سيجعل بقية طريق اوسلو قاسية وقد تكون دموية، وطريق التعايش والسلام بين الشعبين طويل ومعقد ومؤلم. ويؤدي حتما إلى إضعاف مميت للاتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل. ويقوي الارهاب والتطرف والتعصب، بكل أشكاله الديني والقومي والوطني. فهذا التفكير الاستعماري العنصري هو المسئول تاريخياً عن نشوء جبال من الحقد والكراهية بين الشعبين، وهو الذي دفع الإسرائيليين الى رفض قرار التقسيم عام 1947، وحقن الشعوب العربية بالعداء لإسرائيل، وفجر أربع حروب كبيرة بينهم. وأخر الإعتراف الإسرائيلي بوجود شعب إسمه الشعب الفلسطيني قرابة خمسين عاماً، وبوجود م ت ف كممثل شرعي ووحيد له، قرابة ربع قرن، وأوصل الشعب الفلسطيني إلى الانتفاضة الشاملة. وهو ذاته الذي يحرك الآن قوى الائتلاف باتجاه تسريع الإستيطان وتوسيعه وقتل ما تبقى من روح اتفاق اوسلو. ويبعث النشوة في نفوس بعض القادة الإسرائيليين كلما نجحوا في طعن الكرامة الوطنية الفلسطينية..
وهذه اللوحة الواقعية السوداوية عن التطورات السياسية المتحملة تبين بوضوح عمق المأزق الفلسطيني العربي القادم. وطبيعة المصاعب والعقد الاستراتيجية الكبيرة التي سوف تواجهها السلطة الفلسطينية قبل وبعد الرابع من ايار 1999. وتؤكد محدودية الخيارات الفلسطينية والعربية في مواجهتها. فاعلان الفلسطينيين والعرب عن وفاة عملية السلام يفرض عليهم التحدث عن بديل لا يملكوه. والتطورات الدولية ومصالح القوى الكبرى التي ألزمتهم وألزمت الإسرائيليين بالذهاب إلى مدريد، ما تزال قائمة، حتى لو قل إهتمام الإدارة الأمريكية والعالم بصنع السلام في المنطقة. ولا تزال تفرض عليهم السير في دروب التفاوض لحل خلافاتهم كبديل عن طريق الحروب والقتال. واذا كان من الخطأ اقدام العرب والقيادة الفلسطينية على الاعلان عن انتهاء عملية السلام الحالية، فالواضح انهم يرتكبون خطئ أفدح ان هم استمروا في الرهان عليها ابان حكم الليكود لانتزاع حقوقها الكثيرة المغتصبة.
وفي الذكرى الخامس لاتفاق اوسلو يجب القول بصوت مرتفع لكل القوى العربية الرسمية والشعبية: ان تفرقكم وغياب التنسيق فيما بينكم أضعف مواقفكم. ومكّن الجانب الاسرائيلي من دفع العملية نحو الابتعاد كثيرا عن الاسس والقواعد التي قامت عليها. وقناعتكم بان الادارة كلينتون غير راغبة او غير قادر على القيام بدور الراعي العادل والنزيه، تستوجب الفضح، وتستدعي دعوة دول العالم والامم المتحدة لتحمل مسؤولياتها. وربط الاعلان والدعوة بخطوات عملية موحدة ملموسة تجذب تدخلا دوليا أوسع، وتحرك دماء الرعاية الامريكية.
ومن الان وحتى تضح المواقف النهائية لا بد من اتخاذ القيادة الفلسطينية مواقف واضحة وحاسمة ازاء عدد من المسائل الجوهرية. فالتردد والعجز الفلسطيني من الان وحتى ايار القادم 1999 يؤديان الى مزيد من اضاعة الوقت وضياع مزيد من الحقوق، ويضعف امكانية حشد الطاقات العربية. والمصلحة الوطنية، بما في ذلك تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، وترميم ما تضرر من العلاقات العربية الفلسطينية، باتت تفرض على القيادة الفلسطينية حسم أمورها وعدم هدر مزيد من الوقت، والشروع فورا في اعادة ترتيب الاولويات الوطنية. ووضع مسألة تصليب البناء الداخلي، وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية في رأس مهام عملها اليومي. فمواقف حكومة الليكود ضد السلام وضد الاتفاقات تعتمد في كثير من الاحيان على العجز الفلسطيني والعربي. واستمرار الحالة السائدة يؤدي حتما الى اضاعة الوقت ويولد مزيد الضغوط الامريكية. وقد يتسبب في تفجير صراعات تناحرية داخلية. والتطورات المقبلة تحمل في طياتها تعقيدتها كبيرة مرئية وغير المرئية، وتفرض على القيادة الفلسطينية التفكير في حلول طويلة المدى. وتستوجب احياء م ت ف وتفعيل دور مؤسساتها. واعادة النظر في الكثير من مواقفها ومن اساليب عملها في معالجة الهموم والقضايا السياسية والجماهيرية. فضعف الجبهة الفلسطينية الداخلية والارتباك في تحديد الخيارات يبدد الكثير من الطاقات، ويضعف موقف المفاوض الفلسطيني، ويشجع نتنياهوعلى المضي في مواقفه العنصرية المعادية لصنع السلام في المنطقة وللفلسطينيين والعرب كشعوب.
وفي هذا السياق لابد من القول بوضوح بان الاسس التي أعتمدت في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، وفي مقمتها مهمة تحضير الاوضاع للاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الاراضي الفلسسطيمنية التي احتلت عام 1967، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة. وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين التي لن تستسلم للواقع الجديد الذي سيخلقه اعلان الدولة.
لا شك في ان تشجيع المواطن والمفكر وصانع القرار في إسرائيل، على تقبل فكرة التعايش في دولتين متجاورتين مهمة فلسطينية وعربية ودولية من الدرجة الأولى. فلا يمكن لأي حكومة إسرائيلية الأخذ بخيار الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس كحل نهائي للصراع، إلا إذا توفرت أغلبية شعبية (51%) إسرائيلية تؤيد مثل هذا الخيار. وكل إستطلاعات الرأي العام والدلائل الموضوعية تشير الى أن المجتمع الإسرائيلي يسير في إتجاه معاكس تماما، أي يميل نحو مزيد من التطرف القومي والتعصب الديني، وتقلص نسبة مؤيدي الدولة الفلسطينية. صحيح بأن المفكرين الاستراتيجيين الإسرائيليين يواجهون، بعد أقل من عشرين سنة، مشكلة وجود أكثر من 16 مليون فلسطيني، منهم 8 مليون يعيشون على أرض فلسطين التاريخية، و2 مليون، من الرقم الاخير، يعيشون في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية، إلا أن نمو التيار القومي المتعصب يدفع بأغلبية المجتمع الاسرائيلي الى عدم رؤية هذه التطورات وعدم التفكير في حلها الان. وعندما تحين لحظة مواجهة هذه الحقيقة من الصعب التكهن بتوجهات إسرائيل والصهيونية العالمية. والمقدمات التي نعيشها ترجح الميل نحو البحث عن حلول أخرى غير تغيير هوية الدولة اليهودية. ولا شك في ان طمأنة المواطن الإسرائيلي على أمنه ومستقبله من قبل الفلسطينيين والعرب، وازالة مخاوفه، يقوي تيار السلام في إسرائيل، ويضعف مواقف القوى الإسرائيلية المتطرفة. وبالمقابل فإن رفض القيادة الإسرائيلية اتخاذ خطوات عملية وجدية تؤدي مستقبلاً إلى دولة فلسطينية مستقلة، يقود الى توليد شعور بالإحباط واليأس عند الفلسطينيين. والواضح أن تبديد هذا الخوف وذاك القلق المتبادل يتطلب عملا مضنيا وجهودا كبيرة من قبل قوى السلام من الطرفين.
وبديهي القول بأنه سيمضي وقت طويل قبل قبول الشارع الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وقبل قبول الشارع العربي تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وستدفع شعوب المنطقة ثمن ذلك. فطريق الدولة الفلسطينية ليست سالكة وليست مفروشة بالورود، وميلادها سيمر في مخاض دموي مؤلم وعسير جدا، خاصة بعدما أصبحت المستوطنات تغطي مساحات واسعة من أراضي الضفة والقطاع، وغيرت معالم المدينة المقدسة الجميلة.