حول اليوم الرابع من أيار ـ الحلقة 1/الخيارات متناقضة
بقلم ممدوح نوفل في 30/08/1998
خيارات الفلسطينيين والليكوديين متناقضة ومتصادمة
في 4 أيار 1999 تنتهي المرحلة الانتقالية التي أسسها اتفاق أسلو قبل خمس سنوات. وبإنتهائها تنتهي فترة الحكم الفلسطيني الذاتي الانتقالي. ومع اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها أصبح الفلسطينيون والاسرائيليون ورعاة عملية السلام وجها لوجه أمام مأزق آخر أخطر من مأزق تعثر المفاوضات وجمود العملية السلمية الذي واجهوه منذ مطلع 1997عام. وبعد تنصل نتنياهو من الاتفاقات والتفاهمات التي تمت في عهد حزب العمل ورفضه عمليا تنفيذ بقية استحقاقات المرحلة الانتقالية التي نص عليها إتفاق الخليل، وبخاصة مرحلتي الانسحاب واعادة الانتشار الثانية والثالثة، ارتفعت وتيرة النقاش حول الخيارات الفلسطينية وزادت سلبيته. وبانتعاش حركة مصادرة الأراضي، وعمليات التوسع في الاستيطان في الضفة الغربية، سادت الشكوك في قدرة عملية السلام البقاء على قيد الحياة على مسارها الفلسطيني الإسرائيلي. وبتراجع دور الإدارة الأمريكية في رعاية المفاوضات، توسعت دائرة البحث السلبي، وشملت جهات إقليمية ودولية عديدة. وتنوعت قضاياه وطالت فكرة الدولة المستقلة، ومسائل أخرى كثيرة كانت تعتبر مسلمات فلسطينية. ومع تيقن الجميع من إستحالة توصل الطرفان من الآن وحتى أيار القادم الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي، التي لم تبدأ للآن مفاوضاتها مع الليكود، بدأت مراكز الابحاث والدراسات الفلسطينية والاسرائيلية وكل المعنيين بعملية السلام بالبحث في كيفية إملاء الفراغ الذي سينشئ في ايار القادم 1999. ومع اعلان رئيس السلطة الفلسطينية في اكثر من مناسبة عزم الفلسطينيين على ملء الفراغ باعلان قيام دولتهم على الاراضي التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس العربية، تحددت الوجهة الفلسطينية، وخطى البحث خطوة جديدة للامام، وانتقل النقاش للشارع الفلسطيني وما زال الموضع موضع تداول بين اطراف الحركة الوطنية، وداخل المؤسسة الفلسطينية الرسمية وفي صفوف المثقفين المستقلين. والخيارات المطروحة محصورة بالتالي:
الاول/ إستئناف المفاوضات بين الطرفين حول قضايا الحل الانتقالي والاتفاق على تنفيذها. والدخول في مفاوضات حول قضايا الحل النهائي والتوصل ايضا الى اتفاقات حولها قبل 4 ايار 1999، واملاء الفراغ الذي سينشأ بانتهاء المرحلة الانتقالية. ويمكن الجزم بان لا أفق امام هذا الخيار. فتحقيق الاتفاقات المطلوبة خلال الفترة الزمنية المحدودة الباقية درب من الخيال ةمستحيلة. فاذا كانت المفاوضات حول تنفيذ اتفاق الخليل وملحقه المتعلق باعادة الانتشار في الضفة الغربية قد استغرق حتى الان قرابة عامين ولم تصل لنتيجة ايجابية، فليس عسيرا تقدير عدد السنوات الكثيرة التي ستأكلها المفاوضات، اذا بدأت، حول قضايا: القدس، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الامنية النهائية، العلاقات المستقبلية، والمياه. والمغفل سياسيا هو من يصدق أي حديث عن قرب توصل الطرفان الى اتفاق سري أو علني جديد حول هذه القضايا الكبرى والشائكة.
الثاني/ توصل السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية بضغوط خارجية، أو بدونها، الى اتفاق على تمديد المرحلة الانتقالية وتمديد الحكم الذاتي الفلسطيني القائم حاليا، دون احداث أي تغيير في الوضع القائم على الارض، وبدون التوصل الى اتفاق حول قضايا المرحلة الانتقالية وقضايا الحل النهائي. والواضح ان هذا الخيار هو أفضل الخيارات لنتنياهو وأركان حكومته. فهو يعفيهم من كل اشكال الصراع الداخلي والخارجي الذي ستشئ في حال الأخذ بالخيارات الاخرى، ويحافظ على وحدتهم، ويقوي مواقفهم ومواقعهم في مواجهة المعارضة الاسرائيلية. ومن غير المستبعد ان يتعمد نتنياهو الى الاعلان عن تبكير الانتخابات الاسرائيلية وتوقيتها مع انتهاء المرحلة الانتقالية، ظنا منه انه بهذه الخطوة يجعل هذا الخيار بمثابة أمر واقع لا مفر منه. ويحشرالجميع، ويضعهم في موقف صعب يفرض عليهم التعامل ايجابا مع الموضوع. وهذا الخيار مرفوض حتما من الفلسطينيين فهو يلحق اضرارا فادحة بمصالحهم الوطنية، ويفقدهم حقوقا أساسية نصت عليها الاتفاقات، وأخرى لم تبدأ المفاوضات حولها حتى الآن. ويفتح شهية الحكومة الاسرائيلية باتجاه الابقاء على الوضع على الارض على ما هو عليه الى اشعار آخر. ويقفل الطريق امام كل اشكال المؤآزرة والمساندة العربية والدولية للمواقف والحقوق الفلسطينية. ويضعف السلطة الفلسطينية الى ابعد حد ويبين خضوعها لمواقف نتنياهو، وينزع عنها صفتها الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني. ويفجر الاوضاع الفلسطينية، ويدفعها نحو صراعات داخلية دموية. ويسهل على القيادة الاسرائيلية بناء مزيد من الوقائع الكفيلة بتحويل الحل المرحلي الانتقالي الى حل نهائي دائم.
الثالث/ التوصل الى صفقة تقوم على تنفيذ الحكومة الاسرائيلية كل أو بعض استحقاقات المرحلة الانتقالية التي تحدثت عنها المبادرة الامريكية. مقابل ليس فقط تنفيذ المطالب والشروط الاسرائيلية التي تتضمنها، بل وأيضا قبول السلطة الفلسطينية بتمديد المرحلة الإنتقالية وتمديد الحكم الذاتي القائم حتى الانتهاء من الإنتخابات الأمريكية والإسرائيلية سنة 2000. ونتياهو وأركان حكومة يتعاملون مع هذا الخيار باعتباره الخيار البديل للخيار للثاني وصمموا له سيناريو متكامل. يقوم على رفض المبادرة الامريكية تكتيكيا، ورفض الانسحاب من نسبة 13.5% التي طرحتها، وقتل الوقت حتى ربيع 1999. ويعتقدون بان إعلان موافقتهم عليها على أبواب ايار 1999 يقطع الطريق أمام أية خطوات فلسطينية مربكة. ويعفيهم من تحمل المسؤولية عن دفن الاتفاقات وقتل عملية السلام وما يمكن أن تجره من ويلات على الجميع. ويعفيهم من التعرض لضغوط دولية أمريكية واوروبية. ويظهرون وكأنهم يقدمون للجميع مخرجا من المازق. والأخذ بهذا الخيار يجمد الصراع ويؤجل الانفجار. اما قبول الفلسطينيين به فيلحق أضرارا كبيرة بمصالحهم وحقوقهم الوطنية وباستراتيجيتهم التفاوضية. ويعني قبولهم صفقة خاسرة تماما، نتائجها السلبية لا تختلف كثيرا عن نتائج القبول بالخيار الاول. وتصريحات رئيس السلطة حول ملء الفراغ بالإعلان يوم 4 أيار القادم عن قيام الدولة على الاراضي التي احتلت عام 1967، تشير الى نية الفلسطينيين قطع الطريق مبكرا أمام هذا الخيار، وقبل طرحه في سوق المساومات بصورة رسمية.
الرابع/ عدم التوصل الطرفين الى أي اتفاق، وقيام كل طرف بما يحلو له من خطوات واجراءات سياسية وعملية على الأرض وعلى صعيد العلاقات. وهذا الخيار يعني من الناحية العملية إعلان كل طرف، من جانب واحد، عن أهدافه الاساسية التي كان يسعى لتحقيقها عبر مفاوضات الحل النهائي، والعمل على فرضها بالوسائط والقوى المتوفرة عنده والمتاحة له. ويبدو ان هذا الخيار هو الأوفر حظا من بين الخيارات المرئية، ومواقف الاطراف مندفعة باتجاهه. ومواقف رئيس السلطة الفلسطينية وتصريحاته المتكررة حول الموضوع، تشير الا أن الفلسطينيين إعتمدوه أوليا. وهو ولا شك خيار صدامي. فالإعلان الفلسطيني سيتبعه فورا اعلان واجراءات اسرائيلية مضادة من الذات الوزن وقد تكون اثقل من حيث العيار، واعتماده يستوجب الشروع فورا في تحضيرات طويلة وعريضة مسبقة. تبدأ بردم الهوة بين السلطة والشارع الوطني وتحضيره للمواجهة المحتملة، وتنتهي بتحضير الاجواء الدولية لاستقباله. وسيناريو حركته العملية تبدأ باعلان المؤسسات التشريعية الفلسطينية عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الارض الفلسطينية ضمن الحدود التي حددها إعلان الاستقلال الذي أعلنه المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر 1988. والتقدم بطلب للجمعية العامة للامم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينة وبسيادها على الاراضي التي احتلت عام 1967. وتمسك الفلسطينيين بهذا الخيار التصادمي سيقود حتما الى تصادم سياسي وعنيف بين الطرفين. وردود فعل اليمين الديني والقومي المتطرف على تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية تؤكد ذلك. فكلها كانت سلبية ومتوترة، وتضمنت تهديدات باجراءت سياسية وعملية ردعية قاسية. فرئيس الحكومة الاسرائيلية سخر منها وإعتبرها استفزاز وابتزاز سياسي، وخرق للاتفاقات، وتهديد لأمن اسرائيل ووجودها. وهدد بالغاء كل الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وباتخاذ كل الخطوات والاجراءات السياسية والميدانية الكفيلة بالحفاظ على أمن دولة اسرائيل وعلى مصالحها الاستراتيجية. وهناك من طالب باعادة إحتلال المدن والاراضي الفلسطينية المحررة. وما زالت الحرب الكلامية مشتعلة بين الطرفين حول هذا الخيار، وأظنها سوف تقوي اكثر فأكثر كلما اقتربنا من شهر أيار 1999، ومع تصاعدها يجب ان تتصاعد التحضيرات الفلسطينية الضرورية لاعلان قيام الدولة على الأرض.
لا شك في ان موازين القوى حاسمة في تقرير طبيعة الحلول الممكنة في كل مرحلة من مراحل الصراع، ومقررة لاشكالها ولكل التبدلات التي يمكن تقع عليها. وانشطار المانيا الى شرقية وغربية بعد الحرب العالمية الثانية، واعادة توحدها بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نموذج حي على ذلك. وبديهي القول ان خيار اللجوء للحرب التقليدية مسقط من الحساب. وموت عملية السلام الحالية والوصول الى أيار 1999 دون اتفاق لا يعني بأن خيار الحرب عاد ليحتل موقعا بارزا ضمن خيارات أطراف الصراع. فجميعهم ساروا على درب السلام لحل خلافاتهم بالطرق السلمية، بعد إدراكهم بان دروب الحرب لم ولا تحقق أهدافهم الاستراتيجية. صحيح أنهم كانوا في البداية متشككين من إمكانية التقدم عبر المفاوضات بأية خطوة جدية تقربهم من اهدافهم، لكنهم الآن بعد سبع سنوات من اللقاءات والمباحثات الرسمية وغير الرسمية، وبعد تحقيق ما تحقق من إتفاقات ومن مصالح، أصبحوا أسرى للحلول السلمية ومتورطين في تفاصيلها. وبعضهم إنتقل للتعاطي معها كاستراتيجية.
وإذا كانت القيادة الإسرائيلية، لاعتبارات عملية متنوعة داخلية وخارجية، ليست بحاجة لشن حروب لتنفيذ توجهاتها، فموازين القوى العسكرية العربية الإسرائيلية، ومواقف القوى الدولية بعد الحرب الباردة لا تمكّن النظام الرسمي، جماعة او أطراف منفردة، من العودة إلى خيار الحرب لحل خلافهم مع إسرائيل، وفرض حلولهم التي تعيد لهم حقوقهم الوطنية والقومية المغتصبة. وإذا كان لا يزال هناك من يفكر من العرب والاسرائيليون بالحرب لتحسين مواقفه وتعديل ميزان القوى، فأظنهم يدركون بأن النتيجة الوحيدة لاية حرب جديدة هي العودة للمفاوضات على ذات القواعد والأسس تقريبا التي ساروا عليها منذ عام 1991 وحتى لآن. والتطورات الدولية ومصالح القوى الكبرى التي ألزمت العرب والإسرائيليين بالذهاب إلى مدريد، وفرضت عليهم حل خلافاتهم بالطرق السلمية، ما تزال قائمة حتى لو تراجع إهتمام الإدارة الأمريكية والدول الاوروبية وروسيا بصنع السلام في المنطقة.
لا شك أن بإمكان نتنياهو تجميد الاتفاقات، وتعطيل المفاوضات، ووقف عملية السلام عند حدودها الحالية دون أن يدفع ثمن مواقفه المتطرفة، لكن لا يمكنه القيام بخطوات تعيد الاوضاع على الارض الفلسطيية الى ما كانت عليه قبل بدء عملية السلام، واحتلال مدن الضفة الغربية وقطاع غزة من جديد مثلا. أو ضمهما رسميا لإسرائيل، أو الإعلان من جانب واحد عن إلحاقهما بالأردن، او تنفيذ عملية ترانسفير للفلسطينيين. فبعض هذه الخيارات تجاوزتها الاحداث والتطورات السياسية، وبعضها مرفوض من قبل التكتل اليميني نفسه، وبعضها الآخر يرفضه الفلسطينيون، وترفضه المعارضة الاسرائيلية وهي تمثل نصف المجتمع الاسرائيلي تقريبا. وكلها مرفوضة او غير ممكن قبولها من الاردنيين والمصريينن ولا يمكن تمريرها دوليا. ولا تستطيع حكومة الليكود، التي تولت السلطة بأغلبية بسيطة، تحمل المسئولية أمام شعبها وشعوب الدول المجاورة لها وأمام العالم، عن النتائج والآثار المدمرة التي تحملها أية محاولات فرض اي من الخيارات المرفوضة من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والاسلامية ومن العرب والعالم..
ومن البداهة القول بان الحلول المفروضة لا تصنع سلام، وإن بقاء الوضع على ما هو عليه غير ممكن. فالوضع القائم لم ينهي الصراع، واستمراره مرفوض من الفلسطينيين والعرب ومن قطاع واسع من الاسرائيليين. ويقوي التطرف والارهاب في الشارع العربي والاسرائيلي وفي المنطقة. ويقتل عملية السلام في منتصف الطريق، ويؤجج الصراع بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي ويعيده الى اسوء مما كان عليه قبل انطلاق عملية السلام. ويحمل في طياته عوامل وعناصر متعددة قادرة على إشعال حرائق متنوعة على الارض الفلسطينية تمتد نيرانـها بالتدريج إلى كل الدول والشعـوب المحيطـة بفـلسطيـن حتى لو كان بينها وبين إسرائيل معاهدات أو إتفاقات سلام. وسيؤدي إلى إضعاف مميت للاتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل. ويقوي الارهاب والتطرف والتعصب، بكل أشكاله الديني والقومي والوطني، ويساعده في السيطرة على أوضاع المنطقة وتولي دفة قيادتها، وزجها في صراعات دموية، طائفية، ودينية، وعرقية، يصعب التكهن بنتائجها الآن. واختيار القيادة الإسرائيلية لهذا الخيار يعني السباحة والتجديف عكس التيار. اما الخيار الفلسطيني بالاعلان عن قيام الدولة على الارض فهو مشروع كفاحي له افق نضالي وله ايضا أنصار.