الحلقة 2/ حول الرابع من ايارـ الدولة الفلسطينية خيار كفاحي وله أنصار
بقلم ممدوح نوفل في 30/08/1998
اذا كانت موازين القوى، وحالة عملية السلام، وسياسة فرض الامر الواقع التي ينتهجها اليمين الاسرائيلي وبخاصة التوسع في الاستيطان، دفع بالعديد من البحاثة والمفكرين الفلسطينيين والعرب والاسرائيلين لإعتبار فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة التحقيق في المدى المنظور، ولا تمثل حلا جذريا وعمليا للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، فليس كل ما يلمع ذهبا، وليس كل ما يخطر في الذهن من أفكار يمكن أن ينتج ويصنع حلولا عملية على الارض، وقادرة على حشد القوى وتعبئة الطاقات وزجها في الاتجاهات المطلوبة وفي الاوقات الصحيحة. أعتقد بأن خطئا فادحا يرتكبه البحّاثة والمفكرون إذا هم أخضعوا تفكيرهم في المصير الفلسطيني وتحديد الخيارات الفلسطينية، لتقلبات موقف الناخب في الشارع الإسرائيلي. ويخطئون أكثر إذا أخضعوا فكرة الدولة الفلسطينية لمواقف اليمين القومي والديني المتطرف الحاكم في إسرائيل. وسمحوا لتعقد عملية السلام، وتراجع دور رعاتها بالتأثير على خياراتهم وتوجهاتهم الاستراتيجية، وإنساقوا وراء الأحلام والأفكار النظرية الجميلة
والدولة الفلسطينية المستقلة كانت، ولاتزال، وستبقى حتى قيامها، هدفا مركزيا لكل الفلسطينيين. ولن يتوقفوا عن النضال من اجلها حتى تقوم. فرغم “النكبة” وقيام دولة إسرائيل عام 1947ـ 1948 فوق ثلاثة أرباع أرضهم بقوا متمسكين بحقوقهم ولم يفقدوا الأمل في التحرير والعودة، وبناء الدولة. ورغم نجاح الصهيونية العالمية والاستعمار الغربي في توطيد دعائم دولة إسرائيل وبروزها قوة عسكرية كبيرة، واحتلالها عام 1967 بقية فلسطين، إلا أن الفلسطينيين يفقدوا الأمل بالعودة والدولة، ولاحقا أخذوا زمام قضيتهم بيدهم. وظلوا ويحلموا بالعودة والدولة، تارة من خلال التحركات الدولية واجتماعات ونشاطات هيئة الأمم المتحدة وقراراتها، وتارة أخرى على يد الجيوش العربية التي راحت تستعد ليوم التحرير.. وثالثة عبر العمل الفدائي والكفاح المسلح بقيادة م ت ف ورابعة عبر المفاوضات السرية والعلنية المباشرة وغير المباشرة مع الاسرائيليين. وفي أواخر عام 1987، وبعد عشرين عاما من قهر الاحتلال إنفجر الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في إنتفاضة عارمة، حددت أهدافها بدقة في شعارها “لا للاحتلال ونعم للحرية والاستقلال”. ولاحقا أطلقت القيادة الفلسطينية عام 1988 مبادرة سلام قبلت فيها لأول مرة فكرة تقسيم فلسطين، وتبنت شعار “دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية”. ووافقت على قراري مجلس الامن الدولي 242 و 338 كأساس لحل الصراع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي. وفي 15 تشرين الثاني “نوفمبر” 1988 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني من الجزائر بالاجماع “إستقلال فلسطين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967″.
يومها ابتهج الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه بالاعلان وهللوا له واعتبروه خطوة رئيسية هامة في الاتجاه الصحيح. وبعد صراع مع الذات ومع الآخرين وافق الفلسطينيون والعرب والاسرائيليون على نبذ العنف والارهاب واغلاق ملفات الحروب. وذهبوا جميعا أواخر عام 1991 الى مؤتمر مدريد لصنع السلام في المنطقة. وبعد وتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993 انتعشت آمال أغلبيتهم بقرب قيام الدولة على الأراضي التي أحتلت عام 1967، واقتنعوا بأن حل صراعهم مع الاسرائيليين بالطرق السلمية يقربهم من أهدافهم، وأن طريق المفاوضات أقصر الطرق الموصلة للدولة. وعلى إمتداد فترة حكم حزب العمل 1992 ـ 1996 ظل هدف الدولة موضع إجماع فلسطيني شعبي ورسمي. ولم يكن هناك فلسطينيون كثيرون يشكون في إمكانية تحقيق هذا الهدف.
وفي صيف 1996 ذهب الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع لحسم الموقف من السلام. واشتغلت القيادة الفلسطينية، وعدد من القادة العرب، وأركان البيت الأبيض، لصالح فوز حزب العمل والقوى المعتدلة، باعتبارها ضمانة تحقيق السلام في المنطقة. وكانت ثقة القيادة الفلسطينية عالية بفوز حزب العمل، وكانت ملفاتها المتعلقة باستكمال المفاوضات حول قضايا المرحلة الإنتقالية جاهزة. وكانت واثقة تماما من “تشهيل” المباحثات ومن والتوصل إلى اتفاقات ومن تنفيذها بسرعة. وكانت تتطلع نحو تحرير مزيد من أراضي الضفة والقطاع، وإقامة الدولة المستقلة في غضون عامين فوق ما يزيد عن 85 % منها. لاسيما وان المفاوضات حول قضايا الحل النهائي كانت قد بدأت، وقيادة حزب العمل قدمت وعودا كثيرة بشأن مستقبل العلاقات إذا فاز الحزب في الانتخابات. والأفكار الأولية التي قدمها “يوسي بيلين” توفر الأرضية اللازمة لمواصلة البحث وتسهل النقاش، وتفتح أبوابا عديدة للوصول إلى صيغة من التفاهم حول قيام الدولة الفلسطينية، وحول قضايا الحل النهائي. لكن رياح الانتخابات الإسرائيلية لم تجري كما كانت تشتهيها السفينة الفلسطينية. فمع الإعلان عن فوز أحزاب اليمين القومي والديني، وتشكيل حكومة يمينية متطرفة بقيادة تكتل الليكود، تبدلت لغة الكلام الفلسطيني والعربي عن عملية السلام، وعن تطور العلاقات بين الطرفين. وبدأت الأحلام الفلسطينية، بما فيها الحلم باقتراب قيام الدولة، بالتبخر والتلاشي التدريجي. وحل محلها نظرة سوداوية متشائمة حول مستقبل العلاقات والمفاوضات، وحول مصير الاتفاقات التي تم التوصل لها. واعتبر البعض نتائج الانتخابات بمثابة انقلاب إسرائيلي أبيض ضد السلام، وضد الوفاق الدولي الذي ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة.
وبعد سيطرة مواقف الليكود المتطرفه على مسيرة المفاوضات وعلى العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، ظهر في صفوف المفكرين الإسرائيليين الواقعيين من وقف في مواجهتها وتصدى لها علنا، واعتبر التوجهات الفلسطينية نحو الدولة نتيجة طبيعية لعملية السلام، ولمسار تطور الصراع العربي االاسرائيلي بعد 50 عام. ونتيجة حتمية للواقع السكاني القائم على الأرض حيث يعيش في الضفة والقطاع الآن قرابة 3 ملايين فلسطيني عدا عن مليون آخر يعيش في إسرائيل. وانضمت قوى حزبية يتزعمها حزب العمل وحركة ميرتس للحملة وراحت تدعو الاسرائيليين لمساعدة الفلسطينيين على إقامة دولتهم باعتبارها، كما قال سريد وبيريز، “ضرورة لا غنى عنها لقيام سلام مع الفلسطينيين، وضرورة للمحافظة على ديمقراطية دولة إسرائيل وبقاء هويتها يهودية
ومع تدهور حالة عملية السلام على كل المسارات وتصاعد عمليات الاستيطان في الضفة الغربية أكثر فأكثر، وتقاعس الراعي الامريكي عن القيام بواجبه وحماية الاتفاقات التي رعاها، نبش وأحيا بعض المفكرين الفلسطينيين عدد من الأفكار القديمة ودعا بعضهم الى التخلي عن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة والقطاع.
ويدور الآن نقاش سلبي واسع في أوساط السياسيين والمفكرين والبحاثة الفلسطينيين حول آفاق عملية السلام، وحول الحلول النهائية للصراع الفلسطيني العربي ـ الإسرائيلي. وظهر في صفوفهم من يدعو لعدم التسرع في الإعلان عن قيام الدولة، ومن يتساءل عن قيمة الإعلان ويشكك في جدواه وفي مردوده الوطني. وهناك الآن من يبهت الدولة الفلسطينية كتوجه وكفكرة. ويرى بأن الوضع على الأرض ينتج “كيان سياسي” ملتبس المعالم والشخصية ناقص السيادة، ومعظم اراضيه محتلة، يمكن أن يطلق علية كل النعوت والصفات والأسماء ما عدا دولة مستقلة. وهناك من يعتقد بأن تطور الصراع يفرض تجاوز موضوع الدولة ويستوجب البحث عن صيغة بديلة. ويروج لافكار أكثر شمولية من نوع “دولة ديمقراطية علمانية موحدة” أو”دولة ثنائية القومية”، اللتين طرحتهما الفصائل الفلسطينية أواخر الستينات لتطوير موقفها باتجاه الواقعية. وقدمتهما للعالم كبديل لفكرة “تحرير فلسطين وطرد اليهود منها”، التي سادت الفكر الفلسطيني منذ “النكبة وحتى هزيمة حزيران 1967. لكنهم أقلعوا عام 1974عن التفكير بهما وعن طرحهما عندما تخلوا عن مواقفهم المثالية المتطرفة وطرحوا للعالم “برنامجهم المرحلي” الواقعي لحل الصراع. وكأن الدولة الديمقراطية او ثنائية القومية أكثر واقعية الآن من الدولة الفلسطينية، وكأن الفلسطينيين في وضع يسمح لهم بتقرير ليس فقط مصيرهم وشكل نظامهم السياسي، بل وأيضا مصير شعب ودولة إسرائيل بما في ذلك تحويلها من دولة يهودية الى دولة ثنائية القومية او دولة من نوع آخر..!
واذا كان بعض المفكرين والسياسيين الفلسطينيين يشك في أن عملية السلام الجارية والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تفتح على دولة فلسطينية مستقلة، فالمؤكد انها تقفل النوافذ والابواب على الدولة الديمقراطية أو دولة ثنائية القومية. وفي كل الاحوال لا يجوز إعتبار نتياهو مطلق الحرية في التصرف. ويجب التمييز بين رغباته الذاتية ورغبات حكومته وبين إمكانية تنفيذها. فالتعمق في دراسة أسس عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها يبين بأنها ذات أبعاد دولية، ولها قيمتها ووزنها في حسابات الربح والخسارة عند جميع الاطراف. ولا مصلحة لاي طرف الإقدام من جانب واحد على الغائها. فبعض الأفكار التي يفكر بها اليميين الاسرائيلي إنتهى وبعضها شبه مستحيل اعادة الحياة فيه. وإذا كان إستمرار الليكود في السلطة يعطل امكانية تطوير وتوسيع الاتفاقات الموجودة، ويعرقل التقدم على طريق الدولة الفلسطينية، فذلك لا يعني بانه قادر على نسف الحقائق الفلسطينية التي خلقت على الأرض منذ مؤتمر مدريد وحتى الآن، وإلغاء كل النتائج العملية للاتفاقات التي وقعتها اسرائيل. فتوقف المفاوضات على كل مساراتها وانتهاء عملية السلام الجارية لا يقود بالضرورة الى انتهاء العمل بالاتفاقات التي تم توقيعها بين الأردن وإسرائيل وبين منظمة التحرير وإسرائيل. فهذ الاتفاقات بنت لذاتها مرتكزات قوية على الأرض وأصبحت جزء من العلاقات الدولية والاقليمية. وتجربة صمود إتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 20عاما نموذجا لذلك، ولمصير الاتفاقات العربية الإسرائيلية، حتى لو توترت وتدهورت علاقاتهم. ولا يستطيع المشككون في خيار الدولة المستقلة الإدعاء بأن تجدد عملية السلام الحالية بصيغة وأخرى، أو ميلاد عملية سلمية جديدة لاحقا تقفل الأبواب أمام إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن بالإمكان الجزم بأنها لم ولن تتضمن ما يمكن أن يكون له صلة ما بفكرة الدولة العلمانية الموحدة، أو الدولة ثنائية القومية. فكلا الفكرتين مرفوضتين بالمطلق من أحد طرفي الصراع والطرف الثاني لم يعد يفكر فيهما.
والواضح أن مواقف حزب الليكود، وتجربة السلطة الفلسطينية منذ قيامها وحتى الآن، هي التي أثارت وتثيرالأسئلة حول دقة وصحة الاستمرار في إعتماد خيار الدولة كهدف مركزي للفلسطينيين. وأن اختلال ميزان القوى لصالح اسرائيل، وانسداد آفاق عملية السلام، دفعت بالبحاثة الفلسطينيين والعرب لإعتبار فكرة الدولة مستحيلة التحقيق في المدى المنظور، ولا تمثل حلاعمليا للصراع. أظن أن إنتعاش هذه الأفكار ووجهات النظر،الجديدة القديمة، هو إنتعاش عابرومؤقت، وما كان لها أن تبرزمن جديد لو فازحزب العمل في الانتخابات. ولا أدري إذا كان أصحابها سيواصلون التمسك بها والترويج لها إذا مثلا تشكلت حكومة وحدة وطنية في إسرائيل، وتحركت عملية السلام من جديد، اونفذ نتنياهو استحقاقات المرحلة الانتقالية، أو جرت انتخابات مبكرة وفاز حزب العمل فيها، أو تحولت أقوال السيدة الأمريكية الأولى هيلري كلينتون” حول الدولة الفلسطينية الى موقف أمريكي رسمي، مثلا ؟
وبصرف النظر عن مسار الاحداث وتطورها قبل وبعد ايار 1999 سيواجه المفكرين الإسرائيليين بعد أقل من عشرين سنة مشكلة وجود أكثر من 8 مليون على أرض فلسطين التاريخية، منهم 2 مليون يعيشون في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية، واذا كانت المقدمات التي نعيشها ترجح ميل الاسرائيليين في المستقبل القريب نحو البحث عن حلول أخرى غير تغييرهوية الدولة اليهودية، فالدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة والقطاع تبقى ممرا تاريخيا إجباريا للسلام وللدولة الديمقراطية الموحدة على أرض فلسطين التاريخية ولأي صيغ أخرى من التعايش المشترك في ظل نظام سياسي موحد، أو نظامين متداخلين وتجاورين ومنفصلين في آن واحد. اما الوصول للحلول المثالية فيتطلب وقوع تحول جذري في الفكر السياسي وبنية المجتمع الاسرائيلي، باتجاه تخلي أغلبية اليهود عن صهيونيتهم، وعن الأفكارالعنصرية التي ترعرعت في أذهانهم. وتخلصهم من عقدة الخوف من العرب الراغبين في “إبادتهم”، التي زرعت في أذهانهم. ويتطلب بالمقابل إشباع جوع الفلسطينيين وعطشهم للدولة، وإستكمال بلورة هويتهم ومجتمعهم وكيانهم السياسي في إطارها، والتخلص من رواسب التشرد وتبديد الهوية، ومن عقدة الخوف من اليهود والحقد على إسرائيل التي تسببت في نكبتهم، وفي المآسي التي حلت بهم. ورغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على هذه الأفكار، يبقى إشغال الذهن فيها مفيد لجهة تنوير وتثقيف الاجيال من الفلسطينيين والاسرائيليين بحلول مثالية. ولا بئس من الاستمرار في طرحها في سياق سرد وتعداد أنواع الحلول لقضايا الصراع بين الشعوب، شريطة عدم التشويش على فكرة الدولة المستقلة وعلى الجهود من اجل تحقيقها.