هل تستأنف المفاوضات السورية الاسرائيلية على نيران جنوب لبنان ؟
بقلم ممدوح نوفل في 03/12/1998
يعيش الجنوب اللبناني منذ التوقيع على اتفاق “واي ريفر” في واشنطن حالة من التوتر الشديد. فبعد الاعلان عن نية الرئيس كلينتون زيارة غزة وبيت لحم وتل أبيب نفذ حزب الله المدعوم من قبل سوريا وايران عددا من العمليات القتالية الناجحة. أوقعت خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش الاسرائيلي، ومعنوية مؤثرة في المجتمع الاسرائيلي. وأربكت عمل حكومة نتنياهو وحركت قواه السياسية، ولم يتكبد مقاتلو حزب الله خسائر تذكر. وبينت العمليات أن حزب الله يمتلك في جنوب لبنان قواعد ارتكاز قوية ونشيطة، وقدرات ومعدات قتالية فعالة، ونظام معلومات استخبارية مهم. واكتسب، عبر قتاله المتواصل وتماسه الدائم مع مواقع الامامية للجيش الاسرائيلي، خبرات فنية وتكتيكية متقدمة في حرب العصابات، مكنته من تخطي الموانع التكنولوجية المتطورة والتحصينات الارضية القوية التي أقامها الاسرائيليون خلال عشرن عاما من إحتلالهم للجنوب اللبناني. وأظهرت العمليات إنعدام القيمة القتالية والإستخبارية لجيش جنوب لبنان العميل لاسرائيل، وضعف العمل الاستخباري الاسرائيلي وفشل الاجهزة الامنية الاسرائيلية في إحداث اختراقات أمنية مهمة في صفوف كوادر حزب الله ومرتكزاته الشعبية في قرى وبلدات الجنوب.
ورغم ما يمكن أن تجلبه العمليات من ردود فعل إسرائيلية مباشرة ضد سوريا ولبنان الا أن حكومتي البلدين لم تنكرا دعمها للمقاومة الوطنية اللبنانية، ولم تتنصلا من علاقتهما المباشرة بحزب الله ومسئوليتهما غير المباشرة عن عملياته. صحيح أن حزب الله يخوض قتالا متواصلا ضد الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان منذ سنوات طويلة، الا أن التدقيق في توقيت هذا الكم النوعي من العمليات يبين أنها ليست معزولة عن تطور المفاوضات على مسارها الفلسطيني، وحالتها المزرية على المسارين السوري واللبناني. واي تكن الاهداف العسكرية التي أراد حزب الله تحقيقها من عملياته الاخيرة والمكاسب السياسة والجماهيرية الداخلية التي يجنيها منها، وعن ماهية التشجيع السوري له، فاشتعال الوضع في الجنوب اللبناني بقوة في هذه الفترة صب في خدمة الاهداف والمواقف السياسية السورية. وكان بمثابة رساله احتجاج سورية قوية اللهجة موجهة لكل المشاركين والمعنيين بصنع السلام في المنطقة عامة والادارة الامريكية خاصة. خلاصتها ان لا سلام في المنطقة دون سوريا. وأن المفاوضات السورية اللبنانية ـ الاسرائيلية المجمدة منذ أكثر من عامين لا يمكن بقائها معلقة بين الارض والسماء، فاما أن تتجدد على الارض أو تصعد روحها الى السماء. وفي سياق البحث عن سبل تهدئة الوضع أرسلت القيادة السورية الى الادارة الامريكية رسالة خطية جاء فيها ” في حال انسحبت اسرائيل بشكل كامل من هضبة الجولان سيعم الهدوء مع سوريا كما مع لبنان”. وشددت على ان استئناف المفاوضات يجب ان يتم من حيث توقفت.
ويسجل لهم أنهم نجحوا في شد أنظار العالم نحو الجولان وجنوب لبنان، وذكروا الجميع بحقيقة أن الامن والسلام والإستقرار في المنطقة العربية وكل الشرق الاوسط وحدة واحدة يصعب تجزئتها. وأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي متشابك ومتداخل عمليا وإستراتيجيا بالسوري اللبناني ـ الأسرائيلي. والنجاح الجزئي أو الكلي على المسار الفلسطيني يبقى مؤقتا ورجراجا، إذا لم يتم التوصل الى إتفاقات على المسارين الآخرين. واشهروا في وجه نتنياهو عصا عميات حزب الله وجزرة استئناف المفاوضات. واكدوا له انهم قادون على ارباكه واحراجه أمام جمهوره وقاعدته الحزبية، والتأثيرعلى أصوات ناخبيه، اذا ارادوا، كما فعلوا اواخرعهد بيريز. وخلقت العمليات والخسائر البشرية أوضاع أمنية وجماهيرية وسياسية في اسرائيل، وارتفعت أصوات اسرائيلية كثيرة ومهمة تقر بترابط استقرار وهدوء الوضع في جنوب لبنان باستئناف المفاوضات مع السوريين. فرضت كلها على حكومة نتنياهو بحث مسالة تجدد المفاوضات السورية الاسرائيلية مع أركان الادارة الامريكية بإهتمام لا يقل عن الاهتمام الممنوح للمفاوضات الجارية مع الفلسطينيين. واذا كانت المصالح الامريكية وتحقيق توجهاتها الاستراتيجية في المنطقة تفرض عليها ضرب الحديد وهو حام، فالتسخين الجاري للوضع في الجنوب شكل تيارا اقليميا ودوليا ضاغط باتجاه التحرك، وهيأ حديد الليكود للطرق. مع تسجيل الفرق بين ضرورة طرقه والقدرة على تطويعه. فتطويع موقف الليكود لا يزال بعيدا ويحتاج جهودا امريكية من نوع جديد. وتجربة المفاوضات السورية الاسرائيلية تؤكد ان استئنافها لا يعني بالضرورة توصلهما الى اتفاقات خلال فترة قصيرة. خاصة وان نتياهو لا يستطيع دفع استحقاقات السلام على المسارين الفلسطيني والاسرائيلي في آن واحد.
صحيح ان جهود الرئيس الامريكي واتفاق “واي ريفر” أنقذا، في اللحظات الاخيرة، المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من الغرق، الا ان أركان البيت الابيض يدركون ان المفاوضات على مساراتها الثلاث كالأواني المستطرقة توصل سلبياتها وايجابياتها بعضها ببعض، والمفاوضات حول قضايا الحل النهائي على المسار الفلسطيني الاسرائيلي، تتداخل مع مصالح دول عربية كثيرة وضمنها سوريا. فلا يمكن معالجة موضوع اللاجئين والحدود والأمن الخارجي بمعزل عن أخذ رأيها ورأي الأردن ومصر والتفاهم معها حول توطين اللاجئين مثلا. ناهيك عن أن تعطل المفاوضات السورية الاسرائيلية يحرج عالميا “أمريكا” عراب عملية السلام “ويشوش علاقتها بعدد من الدول العربية الحليفة والصديقة لها. ويعرقل إمكانية استئناف المفاوضات متعددة الاطراف التي إعتبرت يوما ركنا أساسيا من أركان صنع السلام في المنطقة وتطبيع العلاقات العربية الاسرائيلية، وبناء شرق أوسط جديد..
أما بشأن آفاق التوصل الى حلول سياسية وميدانية، فالتجربة أكدت أمرين لا بد لكل باحث عن حلول واقعية من أخذهما في كل الظروف والاحوال بعين الإعتبار. الاول، أن حل الصراع يجب أن يتم بالوسائل السلمية. واذا كان صحيحا أن ما يهم الليكود من لبنان ويشغل بال المؤسسة السياسية الاسرائيلية على اختلاف الوانها الحزبية والعسكرية على اختلاف الرتب فيها، هو توفير الامن لقرى ومدن شمال اسرائيل والأمان لسكانها، والاطمئنان على مصير جيش جنوب لبنان العميل لها في أية حلول فتحقيق هذه الاهداف ممكن فقط بالتفاوض مع السوريين، حيث تحوّل لبنان بعد خروج م ت ف من بيروت الى ورقة مساومة بيدها، ومصالحها الاستراتيجية والتكتيكية تفرض عليها التمسك بها، خاصة بعد فقدانها الورقة الفلسطينية. والتحرش بالقوات السورية في لبنان لا يدفع بالقيادة السورية للتخلي عنها.
والامر الثاني هو إستحالة الفصل في المفاوضات والحلول بين المسارين السوري واللبناني. حيث نجح السوريون عبرعشرين عاما من تواجدهم في خلق أوضاع أمنية وقوى سياسية واجتماعية لبنانية تسلم بوجودهم في لبنان، ومقتنعة بأهمية ترابط أهدافها في تحرير جنوب لبنان باهداف سوريا. وتشكلت لها مصالح مادية وسياسية تدفعها نحو الحرص على التحالف مع سوريا في كل الظروف والانسجام مع مواقفها في كل الاحوال. والكل يتذكر سقوط اتفاق 17 ايار الذي فرضته اسرائيل على لبنان عام 1984 في عهد أمين الجميل، وفشل محاولات اسرائيل المتكررة والمدعومة أمريكيا في السيطرة على لبنان وتحجيم الدور السوري فيه. وحزب العمل في عهد رابين وبيريز جرب فصل المسارين وفشل. وتجربة الليكود بعد إستلامه السلطة عام 1996 فشلت ولا تزال حية في الاذهان. وأطروحة نتنياهو الشهيرة “لبنان أولا” التي طرحها في بداية عهده لم ترى النور رغم توفر الدعم الامريكي والاوروبي لها. وأظن أن الامريكان والفرنسيين شطوبها من تصوراتهم بعد أن رفضتها سوريا، وبعد إندحارها عمليا على الارض اللبنانية. واذا كانت المحاولات الاسرائيلية والدولية السابقة لم تفلح في إقناع اللبنانيين، حكومة ومقاومة، في عهد الرئيس الهراوي فصل مسارهم التفاوضي عن المسار السوري، فالرئيس اللبناني الجديد “إميل لحود” إفتتح عهده بخطاب أمام البرلمان أكد فيه على وحدة المسارين، ورفض بالمطلق التوقيع مع الاسرائيليين على أي حل للوضع في الجنوب اللبناني قبل توصل السوريون والاسرائيليون الى إتفاق حول الوضع في الجولان، وذات الشيء فعل رئيس حكومته المكلف “سليم المحص”. واعادة طرح نتنياهو للموضوع هذه الايام، وطلبه من الفرنسيين والبريطانيين إقناع السوريين به كمقدمة للحل على جبهة الجولان، مؤشرعلى ارتباكه وعجزه عن التقدم على طريق البحث عن حلول عملية واقعية. أما اقتراح بعض اركانه بالانسحاب المنظم وتسليم المواقع العسكرية الاسرائيلية لقوات دولية فهو غير عملي، وتنفيذه يتطلب إجراء مفاوضات مع الحكومة اللبنانية التي لا يمكن اخذ موافقتها قبل اخذ موافقة السوريين. وفشل تجربة الاستعانة بقوات متعددة الجنسيات بعد حرب 1982 شاهد حي على ذلك. والانسحاب من جانب واحد وبالتدريج كما يقترح شارون، أو فورا ودفعة واحدة كما تطالب “حركة الامهات الاربع” وغالبية قوى المعارضة، مرفوض من قبل قادة الجيش وأجهزة الامن الاسرائيلية فهو يعني الهروب نحو المجهول وزيادة الخسائر في صفوف المدنيين، وإظهار فشلهم في الدفاع عن أمن مدن وقرى شمال اسرائيل، ويفرض على حكومة إسرائيل تهئية أوضاعها لإستقبال جيش لبنان الجنوبي البالغ تعداده قرابة 3 آلاف جندي وضابط صف وضابط، واستقبال بضع آلاف من المواطنيين اللبنانيين أبناء قرى الجنوب اللبناني. اما ضرب البنية التحتية وتدمير المنشئآت الاقتصادية فقد يقود الى تصعيد نوعي في عمليات حزب الله ويعرض مدن وقرى شمال اسرائيل ومنشئآتها الاقتصادية الى ضربات صاروخية عنيفة، والاستخبارات الاسرائيلية تحدثت اكثر من مرة حول امتلاك حزب الله صواريخ من عيار 140 ملم ومعدات قتالية أخرى متطورة.
أعتقد أن السوريين بالمحصلة فرضوا عبر توابيت القتلى الاسرائيليين، وضع الجولان وجنوب لبنان بجانب قضايا المسارالفلسطيني، على جدول أعمال الرئيس الامريكي قبل وصوله المنطقة. وخلقوا في الوقت المطلوب الارضية والمناخ الملائمين لتحرك أمريكي قوي لاستناف المفاوضات السورية اللبنانية ـ الاسرائيلية. واذا كانت مواقف اطراف رئيسية في الحكومة، وقناعات نتياهو الايدلوجية ومفاهيمه الامنية وأطماعه التوسعية تحول حتى الآن دون موافقته على استئناف المفاوضات على المسار السوري من حيث توقفت في عهد حزب العمل، فوقائع الصراع الطويل بينت ان الأعمال العسكرية الواسعة أو المصغرة التي قامت بها اسرائيل سابقا في لبنان لم توفر الأمن لشمال اسرائيل، ولم تخرج جيشها من المستنقع الغارق فيه منذ قرابة عشرين عام، ولم تقلص خسائره البشرية الكبيرة. وهذا الاستخلاص ينطبق على أي عملية عسكرية اسرائيلية جديدة تنفذها قوات جيش الدفاع الاسرائيلي في جنوب لبنان إنتقاما لخسائرها وإمتصاص حركة الشارع الاسرائيلي الداعية بقوة الى الانسحاب فورا ومن جانب واحد. وقديما قالوا “من جرب مجرب عقله مخرب”.
واصرار نتنياهو على موقفه وتجديد تمسكه بفصل وضع جنوب لبنان عن الجولان يعني من الناحية العملية إستمرار الوضع في الجنوب اللبناني على ما هو عليه الى إشعار آخر، وتعرضه من حين لآخر لهبات عسكرية قوية ساخنة. والهدوء القائم الآن هدوء ما قبل العاصفة، وقد يستمر الى ما بعد زيارة كلينتون للمنطقة. وطالما ان العلاقات السورية الاسرائيلية دخلت مرحلة من التأزم والوضع على أرض جنوب لبنان يتجه نحو التدهور، فهل يعدّل الرئيس كلينتون برنامج زيارته وجدول أعماله باتجاه إطفاء فتيل الاشتعال، وإعادة الاطراف الى طاولة المفاوضات بإعتباره الخيار الأفضل لكل شعوب المنطقة ؟