عملية السلام في خطر فهل سينقذها الراعي الامريكي؟
بقلم ممدوح نوفل في 25/03/1997
اتجاهات عمل الليكود تعيد المنطقة لاجواء ما قبل عملية السلام
في الاسابيع القليلة الماضية شهدت العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية تطورات دراماتيكية، بسبب اصرار نتنياهو على تأكيد مواقفه الايدلوجية، وعلى تطويع عملية السلام وفقا لتوجهات ورغبات اليمين الاسرائيلي. واستهتر بالشريك الفلسطيني، ولم يتورع عن العبث بالمقدسات. فتعطلت مسيرة السلام، وتجمدت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وتعكرت اجواء المنطقة وعادت لها حالة التوتر والعداء المتبادل التي عاشتها قرابة 45 عاما قبل انعقاد مؤتمر مريد للسلام عام 1991، وتوترت علاقات اسرائيل مع اكثر من طرف عربي واسلامي، وتحرك الراعي “الطبيب” الامريكي لمعالجة اوضاع ” المريض”عملية السلام. فهل نجح ؟ في هذه المقالة احاول تسليط الاضواء على كل هذه التطورات ومتابعتها تحت العناوين التالية :
اولا/ نتنياهو ايدلوجي وحكومتة ماضية في تنفيذ برنامجها وتوجهاتها .
ثانيا/ روس ونتنياهو يضعان الفلسطينيين امام خيارات صعبة .
ثالثا/ مؤتمر غزة لم ينجح في انقاذ عملية السلام .
رابعا/ لا امن ولا استقرار في المنطقة اذا لم تستقر اوضاع القدس .
نتنياهو ايدلوجي وحكومتة ماضية في تنفيذ برنامجها وتوجهاتها
عندما وافق نتنياهو منتصف كانون الثاني على اتفاق الخليل، اعتقد بعض اركان السلطة الفلسطينية وبعض المراقبين والمحللين السياسيين، المهتمين بالصراع العربي الاسرائيلي وبمسيرة السلام ان الجانب البراجماتي في تكوين نتنياهو تغلب على الآخر الايدلوجي. خاصة وان ملحقات الاتفاق تضمنت انسحاب الجيش الاسرائيلي من الارياف الفلسطينية ـ باستثناء المستوطنات والمواقع العسكرية ـ ونصت على تسليمها للسلطة الفلسطينية على ثلاث مراحل حدها الاقصى 18 شهرا. وانطلاقا من قناعاتهم بأن مصالح نتنياهو كرئيس للوزراء تتباين وتختلف عن مصالحه كزعيم للمعارضة، طالب بعضهم باعادة النظر في تقييم الموقف الفلسطيني والعربي المتشائم بشأن مصير عملية السلام ومصير المفاوضات على المسارالفلسطيني، والذي تم التوصل له بعد فوز الليكود في الانتخابات الاسرائيلية في حزيران 1996. وطالبوا في حينه بالاقرار بان انتهاء الحرب الباردة وتوجه المجتمع الدولي بقيادة قطبه الاوحد (الولايات المتحدة) نحو حل الصراع العربي الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وكل الصراعات الدولية والاقليمية الكبرى، بالطرق السلمية، قادر على ضمان استمرار عملية السلام، وعلى احداث تغييرات جوهرية في عقائد وقناعات وتوجهات القوى العربية والاسرائيلية الحاكمة وغير الحكومية. معتقدين ان ليس بمقدور الليكود والاحزاب الاسرائيلية
اليمينية الاخرى الشذوذ عن هذه القاعدة. وانها مجبرة في ظل المتغيرات والتطورات الدولية والاقليمية على التراجع عن مشروعها اقامة دولة اسرائيل الموسعة، وعن افكارها ومقولاتها التي تعتبر الضفة الغربية ارض الميعاد التي وهبها الله لبني اسرائيل، وتسميها يهودا والسامرا. لاسيما وان هذه القوى صعدت للسلطة ووجدت امامها اتفاقات والتزامات اسرائيلية ـ عليها شهود دوليين ـ بمواصلة المفاوضات مع الفلسطينيين حول الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة. ومضى بعض المتفائلين الى ما هو ابعد ذلك وقالوا: بان حزب الليكود هو الاقدر على تقديم التنازلات بشأن القضايا المرحلية وقضايا الحل النهائي.
في حينه كنت مستعدا لممارسة النقد الذاتي، باعتباري احد الذين تشائمو من فوز الليكود، والاعتراف بالوقوع في خطأ المبالغة، والتطير في تقدير مدى انعكاس فوز الليكود في الانتخابات الاسرائيلية على مسيرة السلام العربية والاسرائيلية، وبخاصة على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي. وكنت مستعدا للتراجع عن مقولة “السلام..على عملية السلام في عهد الليكود”. لكن مسار الاحداث منذ التوقيع على اتفاق الخليل، ومواقف نتنياهو منذ ذلك التاريخ وحتى الان وبخاصة الاخيرة منها، جاءت لتؤكد صحة مواقف المتشائمين. فتسلم حزب الليكود والقوى اليمينية الاسرائيلية زمام السلطة في اسرائيل احيا الاحقاد والعدوات الدفينة في النفوس. وعرض عملية السلام على كل مساراتها لمخاطر كثيرة حقيقية، وزاد من عدم الثقة بها، وحولها الى عملية فوقية تدور بين الحكومات ولا علاقة لشعوب المنطقة بها من قريب او بعيد. وهز العلاقات المصرية الاسرائيلية القديمة ووترتها، واهتزت معها الاتفاقات الاردنية الاسرائيلية الحديثة. واججت الصراع في المنطقة ووضعها على حافة الانفجار. ولعل اقدام احد افراد الجيش الاردني يوم 13آذار الجاري باطلاق النيران على حافلة كانت تحمل سواحا الاسرائيليين، وقتله سبع فتيات بريئات مؤشر للمدى الذي بلغته حالة اليأس والاحباط في الشارعين العربي والفلسطيني. ومؤشر للاتجاهات التي يمكن لاوضاع المنطقة ان تندفع فيها.
صحيح ان التحركات الدولية والاقليمية التي ظهرت في سماء المنطقة بعد احداث النفق، في ايلول الماضي، نجحت في دفع نتنياهو الى توقيع اتفاق جديد مع الفلسطينيين في اطار اتفاقات اوسلو التي كان يناصبها العداء. وانه نفذ بعض بنود هذا الاتفاق عندما انسحب من مدينة الخليل، وأطلق سراح المعتقلات. الا ان من يدقق في ما نفذ وفي مواقفه اللاحقة يستطيع ان يرى ان التنفيذ اقتصر على الشق المريح له والذي لا يتعارض مع عقيدة الليكود، ولا يخرج عن اطار مشروع الحكم الذاتي الذي بلوره بيغن عام 1979. حيث احتفظ لنفسه بالمسئولية الكاملة عن 20% من مدينة الخليل، وابقى على التجمع الاستيطاني في قلبها. وارتاح من الاعباء الامنية الثقيلة والمرهقة، وقذفها على كاهل اجهزة الامن الفلسطينية. وانه بعد اتفاق
الخليل راح يماطل في استكمال المفاوضات حول فتح الممر الآمن بين الضفة وقطاع غزة، واطلاق سراح المعتقلين، وتشغيل مطار غزة، واستكمال بناء مينائها، وحول القضايا الاقتصادية المعلقة. ورفض اعادة النظر في الوضع المزري لمرور الفلسطينيين من المعابر على الحدود الاردنية والمصرية. وبينت المفاوضات التي تمت حول هذه القضايا وسواها ان توجيهات نتنياهو للمفاوض الاسرائيلي تتلخص باعادة التفاوض حولها كلها. والتمسك بشعار التبادلية في تقديم التنازلات، والتعرف على ما يمكن ان يقدمه الجانب الفلسطيني مقابل كل واحدة منها. ناسيا والاصح متناسيا ان الفلسطينيين قدموا الكثير في مدريد وواشنطن واوسلو وطابا، ودفعوا مقدما كل الاستحقاقات التي فرضتها عليهم عملية السلام .
ومنذ اتفاق الخليل، لم يكتفي نتنياهو بالمماطلة، وبنقض الوعود، التي قدمها المفاوض الاسرائيلي في عهد حكومة حزب العمل حول القضايا المطروحة على جدول اعمال المفاوضات. فقد تعمد فتح معركة متعددة الاوجه حول وضع مدينة القدس وقرر توسيعها في كل الاتجاهات بصورة خيالية، وعلى حساب اراضي الضفة الغربية. بهدف تهويدها وحسم وضعها قبل الدخول في مفاوضات الحل النهائي. وتحويلها الى جدار يفصل جنوب الضفة الغربية عن وسطها وشمالها. حيث اصدر اوامره بالعمل على بناء حي استيطاني في جبل ابو غنيم “المسمى هار حوماة” الملاصق لبيت جالا وبيت لحم جنوب القدس. وصادر مساحات واسعة من الاراضي المحيطة بها من الشرق والشمال لربطها مع مستوطنة معالية ادوميم المطلة على الاغوار والبحر الميت. ولتطويق البلدات والقرى العربية وتحويلها الى جزر معزولة ومقطعة الاوصال. وراح يرفع من وتيرة الضغوط النفسية والمادية لتهجير مزيد من سكانها العرب، من خلال تدمير البيوت بحجة عدم الترخيص المسبق. وسحب الهويات تحت ذرائع متنوعة، وفرض الضرائب الباهظة عليهم. وقرر مؤخرا اغلاق عدد من المؤسسات الفلسطينية فيها بدعوى ارتباطها بالسلطة الفلسطينية ولاحقا تراجع عن الاغلاق بعدما تبين عدم شرعيته. ضاربا الاتفاقات مع الفلسطينيين عرض الحائط. فاغلاق المؤسسات يتعارض مع نص وروح الرسالة الرسمية التي وجهها شمعون بيريز قبل التوقيع على اتفاق اوسلو باسم الحكومة الاسرائيلية الى المرحوم هولست وزير خارجية النرويج. وتعهد فيها “بعدم المساس بالوضعية القانونية والعملية للمؤسسات الفلسطينية في القدس”. اما الاستمرار في مصادرة الاراضي وبناء احياء استيطانية جديدة، او اقامة مستوطنات جديدة فنتنياهو يدرك اكثر من سواه انهما يتناقضان تماما مع روح عملية السلام، ويتعارضان مع نصوص الاتفاقات، التي حددت حدود المستوطنات بالمباني المقامة حتى لحظة توقيع الاتفاقات. ونصت ايضا على عدم قيام اي طرف من الاطراف باية اعمال تضر بعملية السلام وتؤثر على سير مفاوضات المرحلة الانتقالية. وتجحف بوضعية القضايا الاساسية المحالة لمفاوضات الحل النهائي.
وخلال ذات الفترة اقدمت حكومة نتنياهو على مصادرة آلاف الدونمات في الضفة الغربية وبخاصة في مناطق الاغوار والشمال، تمهيدا لاقامة مستوطنات جديدة وتوسيع الموجود منها. ولاقامة مشاريع اسرائيلية عليها كمشروع الكسارات في منطقة طولكرم ـ قلقيلية. ويعمل وزير البنية التحتية (شارون) بجد وصمت وليل نهار، وبتواطئ مكشوف مع المستوطنيين والوزراء على اقامة آلاف الشقق الاضافية، وتوسيع البنية التحتية في العديد من المستوطنات باموال الوزارات. وكل ذلك يتم على مرأى وسمع العالم وبخاصة راعيي عملية السلام .
ولم تتوقف خطواته العملية المتناقضة مع قواعد عملية السلام، وخروقاته للاتفاقات الموقعة بين الطرفين، عند هذه الحدود الخطرة. بل مضت الى ما هو ابعد وأخطر من ذلك بكثير حيث بلغت درجة الاستهتار بالشراكة مع الفلسطينيين، والاستهتار بالسلطة وبقيادة م ت ف كشريك في عملية السلام. فلا يمكن فهم رفض المفاوض الاسرائيلي اطلاع المفاوض الفلسطيني على خرائط الانسحابات الجديدة وجدولها الزمني قبل الاعلان عنهما خارج هذا الاطار. والشيء ذاته ينطبق على تقرير واعلان الحكومة الاسرائيلية من جانب واحد عن نيتها بالانسحاب الامني من 7% مناطق الضفة الغربية المعروفة بالمنطقة “ب” ، والانسحاب الاداري من 2% من الاراضي الواقعة في المناطق التي اصطلح على تسميتها “ج”.
اعتقد ان كل ما ذكر اعلاه يكفي للاستخلاص ان موافقه نتنياهو قبل 3 اشهر على اتفاق الخليل وملحقاته، وتراجعه في حينه عن قناعاته الايدلوجية والسياسية، وعن مواقفه السلبية من اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات اخرى مع الفلسطينيين، لم يكن نتيجة تبدل جوهري في المعتقدات والقناعات، وانما كان وما زال عبارة عن خطوة تكتيكية هدفها امتصاص الحركة الميدانية القوية والمفاجئة له التي قام بها الفلسطينيون، سلطة وشعب، ردا على فتحه النفق تحت مدينة القدس القديمة. وكانت انحنائة مؤقته امام عاصفة الضغوط الاقليمية والدولية التي هبت لانقاذ عملية السلام من الانهيار الكامل، وكانت مجاراة خادعة لعاصفة الضغوط الاسرائيلية الداخلية التي اثارتها قوى السلام الاسرائيلية، وحملته المسؤولية الكاملة عن تخريب عملية السلام، وتدمير المكاسب الاقتصادية التي بدأت قوى الرأسمال الاسرائيلي بجنيها من انفتاح الدول العربية والاسلامية عليها.
والواضح الان ان نتنياهو ماض في تنفيذ توجهاته، وبخاصة التوسع في الاستيطان والاستهتار بالشراكة مع الفلسطينيين. وكي يحمي نفسه من المضاعفات المتوقعة، اهتم بان يقر مجلس الوزراء كل التوجهات التي سينفذها في الاسابيع والشهور القليلة القادمة، بعكس ما حدث في قضية النفق في ايلول الماضي حيث اتخذ القرار بمفرده. وأظن ان نتائج مؤتمر غزة ومواقف الادارة الامريكية المتساهلة معه تشجعه على المضي قدما في خطواته. لاسيما وانه الان في امس الحاجة لتأكيد صلابته الايدلوجية امام حلفائه في الائتلاف الحكومي وأمام جمهوره اليميني المتطرف، وتأكيد ذاته كمدافع امين عن حق اسرائيل في البناء في كل انحاء القدس وضواحيها باعتبارها عاصمة اسرائيل الموحدة والابدية. معتقدا انه بالصلابة العقائدية وبالصمود امام الضغوط الاقليمية والدولية يحافظ على وحدة حكومته اليمينية، ويخرج الليكود من ازمته الداخلية والوطنية. فهل ما قام به نتنياهو حتى الان، وما قد يقوم به في الايام والاسابيع القادمة هو استفزاز متعمد للفلسطينيين لاستدراجهم لمعركة جديدة..؟ تمكنه من الهروب من عملية السلام التي تورط فيها، والهروب من استحقاقاتها المباشرة واللاحقة. لاسيما وانه يدرك ان دفعها ولو بالتقسيط يعطل تنفيذ برنامجه وتوجهاته، وينهي العقيدة الجامدة التي تربى عليها، ويدمر حزبه الذي اوصله للقمة. ويبقى السؤال ماذا سيفعل الفلسطينيون في الداخل والخارج شعبا وسلطة وفصائل ومنظمات واتحادات شعبية..