نتنياهو ودينس روس يتواطئان ضد السلام مع الفلسطينيين
بقلم ممدوح نوفل في 27/03/1997
منذ انطلاقة عملية السلام في مدريد في اكتوبر 1991، مرت القيادة الفلسطينية والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية في ازمات كثيرة. ومرت عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي في عدد من المحطات السياسية الحاسمة والصعبة. الا انني اعتقد ان ما توجهه في هذه الفترة هو الاعقد والاخطر. وتشبه الى حد كبير الازمات مرت بها في عهد شامير، وبخاصة تلك التي مرت بها اوخر عهده على ابواب انتخابات صيف 1992. في تلك الفترة تمرد شامير على الرأي العام العالمي، ورفض تجميد الاستيطان، وراح يتلاعب بالمفاوضات على كل المسارات، وجعلها تدور بشكل فج ومكشوف في حلقة مفرغة. في حينه لم تتردد ادارة بوش ـ بيكر عن اعلان موقف واضح ضد ما كان يقوم به شامير، وسارعت الى التدخل بحزم لانقاذ عملية السلام. وربطت ضمانات القروض التي كان يطالب بها شاميرلاستيعاب وتأهيل المهاجرين الجدد، بموقفه من عملية السلام، وبخاصة موقفه العملي من مسألة الاستيطان. فهل ستتخذ ادارة كلينتون ـ روس موقفا مشابها..؟
صحيح ان الازمة الحالية امتداد لتلك التي واجهتها المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية منذ استلام الليكود السلطة في اسرائيل في حزيران الماضي، عندما استهتر نتنياهو بالشريك الفلسطيني. وماطل في استئناف المفاوضات على المسار الفلسطيني. واقدم على فتح النفق من جانب واحد، الا ان من يدقق فيها يجدها اعمق وأشمل واخطر. وتمتاز عن كل ما سبقها من ازمات بأنها تدور بين موقفين واضحين حول اسس عملية السلام وقواعدها، وحول مفهوم الاتفاقات مع الفلسطينيين: الاول “السلطة الفلسطينية” وموقفها باختصار يقوم على التمسك باسس وقواعد عملية مدريد ـ اوسلو. ورفض سياسات الاملاءات التي بدأت تتبعها حكومة الليكود في العلاقة مع الفلسطينيين، ورفض فرض الامر الواقع على الارض. اما الثاني”نتنياهو” فقد قرر من جانب واحد تجميد العمل باتفاقات اوسلو وما تلاها من اتفاقات. وعدم تنفيذ بقية التزامات المرحلة الانتقالية المطلوبة منه، التي وافق عليها ووضع توقيعه الواضح والصريح فوقها. وشجع شريكه “هنغبي” على التهديد بتجريد الفلسطينيين من بعض ما اخذوه سابقا. ولم يكتفي بذلك فقرر وحده ان اسس مؤتمر مدريد ـ اوسلو لم تعد صالحة ولا بد من تغيرها.
اعتقد انني لا اتجني على احد في هذا التلخيص البسيط للموقف الاسرائيلي. فالدتقيق في سلوك نتنياهو بعد اتفاق الخليل، وبخاصة ما يجري الان في جبل ابوغنيم وموقفه من تنفيذ القضايا المعلقة من الاتفاقات السابقة، يؤكد الشق الاول من التلخيص المذكور اعلاه. والتمعن والتدقيق في اقتراحه الجديد الذي اطلقة يوم 20/3/1997 يؤكد الشق الثاني منه. فهو يقترح على الفلسطينيين وعلى كل المهتمين بعملية السلام، اولا وقف المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية حول القضايا الباقية على جدول اعمال المرحلة الانتقالية (الانسحاب على مرحلتين من المناطق ج، والتي يفترض ان تشمل حسب نصوص الاتفاقات كل اراضي الضفة وقطاع غزة، ما عدا المستوطنات والمواقع العسكرية + فتح الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة+ اطلاق سراح المعتقلين + الوضع على المعابر + تشغيل المطار + استكمال بناء بالميناء.. الخ). ثانيا، الانتقال فورا الى مفاوضات المرحلة النهائية، ـ وكأن مفاوضات الحل النهائي لم يحن موعدهاـ والعمل على الانتهاء من التفاوض حول كل قضاياها في غضون فترة 6 شهور.
من القراءة الاولى لاقتراح نتنياهو يمكن للبعض التوهم بانه جيد. فهو يتقاطع نظريا مع مواقف قوى المعارضة الفلسطينية، ومع مواقف كل الذين تعبوا وسئموا الحديث الممل والمثير حقا للاعصاب، عن مدريد واوسلو وطابا، وعن ضرورة الالتزام بالاتفاقات.. الخ المعزوفة التي تتكرر يوميا. ولان الوقائع العملية والملموسة تؤكد ان نتائج المفاوضات على امتداد فترة زادت عن خمس سنوات، وفقا لقواعد مدريد ـ اوسلو، متواضعة جدا وقليلة جدا. والاقتراح بنصه الواضح يتحدث عن مفاوضات متواصلة حول قضايا الصراع الاساسية، مدتها نصف سنة فقط، تنتهي باتفاق! وتريح الجميع من صداع المفاوضات، ومن تصدع العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وقد يتوهم البعض ان الاخذ بالاقتراح يمنع نتنياهو من خلق حقائق جديدة على الارض من شأنها اثارة صعوبات امام المفاوضات، وامام سلام نتنياهو “المتسرع”.
الا ان من يدقق في برنامج الليكود والقوى الاخرى المؤتلفة معه في الحكم، ويتفحص ابعاد وخلفيات هذا الاقتراح، يستخلص ان “ليس كل ما يلمع ذهب” ويقول: نتياهو يقدم السم في الدسم. والساذج او الجاهل بقضايا الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وحده هو من يعتقد ان المفاوضات حول قضايا الحل النهائي يمكن ان تنتهي خلال 6 ـ 9 شهور. فمن ماطل على سبيل المثال، في المفاوضات مع الفلسطيين حول الخليل وحول الانسحاب من 2% من المنطقة ج فترة 6 شهور، لا يمكن، بل من المستحيل التوصل معه الى اتفاق حول القدس وحول اللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه..الخ خلال سنوات وليس شهور. اما من عطل المفاوضات مع السوريين واللبنانيين منذ توليه السلطة، ويرفض الانسحاب من الجولان من حيث المبدأ، فلا يمكنه اقناع احد بانه سينسحب بعد 9 شهور مثلا من الضفة الغربية التي ما زال يعتبرها ارضها الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل. ومن يماطل في تنفيذ القضايا العالقة من الاتفاقات السابقة وهي في جوهرها تفصيلية لا يمكن ان يكون مخلصا في التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي وهي الاعقد والصعب، وتمس عقيدة الليكود وتنسفها من اساسها. ويخطا من يعتقد ان نتنياهو يريد الوصول للسلام بسرعة كي يرتاح من متاعب المفاوضات الطويلة والمملة، وكي يريح الفلسطينيين والاسرائيليين والعالم اجمع من صداع الصراع المزمن في الشرق الاوسط. ومواقف اليمين المتطرف، الذي عارض الانسحاب من 2% من الضفة الغربية، على اقتراح نتنياهو مؤشر. فهم شركائه في الحكم ويعرفون اهدافه ونواياها الحقيقة من طرح اقتراحه في هذا الوقت بالذات وهي كما اعتقد:
اولا/ الغاء المرحلية الواردة في اتفاق اوسلو. ليس حبا بالوصول الى سلام “متسرع” مع الفلسطينيين، بل لان ما تبقى فيها من استحقاقات تمثل كابوسا له، وتتعارض مع عقيدة الليكود ومع مصالح اسرائيل كما يتصورها نتنياهو ذاته. فهو يريد كسب الوقت، والهروب من الانسحاب الثاني المفترض في ايلول القادم، ومن تنفيذ الثالث في آذار ـ حزيران 1998. لاسيما وان تنفيذهما كفيل بتفجير الائتلاف الحكومي من جهة. وتوفير المقومات الاساسية لقيام دولة فلسطينية تمتد سلطتها على معظم اراضي الضفة والقطاع وكل سكانهما.
ثانيا/ تحسين مكانة اسرائيل على الصعيدين الاقليمي والدولي التي اهتزت منذ استلامه السلطة في اسرائيل. وتحسين مكانتة شخصيا داخل اسرائيل. واستباق الاحداث والتطورات المقبلة في ايلول القادم “توقيت الانسحاب الثاني”. والهروب من الضغوط الامريكية والدولية المتوقع ان يتعرض لها عندما يحين موعد الانسحاب الثاني. لا سيما وانه قرأ وسمع حديث اركان الادارة الامريكية، الذي ورد في سياق التعقيب على الاعتراض الفلسطيني على حجم الانسحاب الاول الذي نفذه نتنياهو، حيث اكدوا ضرورة ان تكون مساحة الانسحاب الثاني اوسع بكثير من مساحة الانسحاب الاول الذي نفذ. ونتنياهو يدرك انه سيجد نفسه في ايلول القادم اذا بقيت عملي السلام على قيد حتى ذلك التاريخ، امام احد ثلاث خيارات: احلاها مر. التصادم مع الفلسطينيين والامريكان والعرب والعالم. او تغيير عقيدته. او العمل ضد قناعاته وتنفيذ انسحاب “ما” جديد من ارض يهودا والسامرا يفقده حتما فرصة النجاح في الانتخابات القادمة. وقد يفقد قبل ذلك فرصة استكمال ولايته كرئيس وزراء
اعتقد ان قدر الفلسطينيين في هذه الفترة من الحكم الاسرائيلي، وفي هذا الزمن العربي والدولي الرديء الحصول حقوقهم بالتقسيط البطيء. واسترجاع ما يمكن استرجاعه من ارضهم على دفعات قد تكون اقرب الى انتزاع الجرعات الصغيرة بجهدهم وعرقهم وبمساعدة الطبيب الامريكي” الراعي”، وبناء مقومات سيادتهم واستقلالهم عبر المعاناة وبالتدريج. ومن الصعب الحديث بجدية في ظل حكم الليكود وفي هذا الوقت بالذات عن قفزة كبيرة جدا الى الامام في المفاوضات. وكل هذه الخطوات لا يمكن الحصول عليها من خلال اقتراح نتنياهو الجديد. بل من خلال موقف واضح وحاسم خلاصته رفض اقتراح نتنياهو بصورة رسمية لا لبس فيها. والتمسك باسس وقواعد مدريد ـ اوسلو، والسير في المفاوضات اللاحقة في حال استئنافها في مسارين متوازيين. الاول وله الاولوية، متابعة انتزاع كل الحقوق الكبيرة والصغيرة التي نصت عليها الاتفاقات ولم يلتزم نتنياهو بتنفيذها حتى الان. وابقاء نتنياهو محشورا في زاوية ضيقة امام العالم. عنوانها، مختصر مفيد ضرورة، الالتزام بتنفيذ ما اتفق علية. والثاني الشروع في مفاوضات الحل النهائي وفقا لاتفاق اوسلو ـ الخليل، وليس حسب اقتراح نتنياهو التضليلي. ولعل من المفيد للمفاوض الفلسطيني ان يدرك منذ الان، ان الدعم الذي تلقاه ويتلقاه من الرأي العام الدولي، ومن العديد من دول العالم خلال مفاوضات المرحلة الانتقالية قد لا يجده خلال مفاوضات المرحلة النهائية. فالموقف الدولي من القضايا المطروحة على جدول اعمال الاولى يختلف عن موقفه من القضايا المطروحة على جدول اعمال الثانية. فالتصور الدولي لحل مسألة الاستيطان او القدس مثلا لا يتطابق مع الموقف الفلسطيني حولهما. وذات الشيء ينطبق على موضوع الحدود والمياه واللاجئين والنازحين، والاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على ارض فلسطين. وواهم من يعتقد ان لدى نتياهو ما يقدمه للفلسطينيين بعد الانسحاب البسيط الذي اعلن عنه، ولم يتم تنفيذه رسميا حتى الان. فهو مؤمن بان ما اخذه الفلسسطينيون حتى الان هو سقف الحكم الذاتي، الذي يؤمن به هو وقوى اليمين، كحل نهائي للمسألة الفلسطينية.
وبصرف النظر عن النوايا والرغبات الذاتية لراعيي عملية السلام وكل القوى التي ساندتها منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وحتى الان، وعن كل المواقف العملية التي يمكن ان تتخذها لحماية ما تبقى من عملية السلام لعل من المفيد في هذه الايام الحاسمة من عمر العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية والاتفاقات الموقعة بينهما، تذكير الراعي الامريكي اولا، وكل المهتمين بصنع السلام والاستقرار في المنطقة، بان قيادة الشعب الفلسطيني دعتهم منتصف شهر آذار الى غزة، بعدما فقدت الثقة بالشريك الاسرائيلي الذي لم يحترم تعهداته وتواقيعه، ولا تواقيع الشهود الدوليين والاقليميين على الاتفاقات. وان شعبها يكاد يفقد الامل والثقة بكل دول العالم بدء من الولايات المتحدة الامريكية، وحتى اصغر دولة تهتم باستقرار اوضاع المنطقة. فالمواقف والممارسات الاسرائيلية الفاشية، المتناقضة مع روح عملية السلام ومع الاتفاقات، جرت وتجري يوميا على ارضه على مرآى الدول الكبرى والصغرى. وممارسات قوات الاحتلال وقهرها له دفعته قسرا وبالقوة باتجاه موقع اليأس والاحباط. لقد مضى خمس سنوات واكثر على مشاركة الشعب الفلسطيني في عملية السلام قدم ودفع خلالها الكثير الكثير، وتحمل ايضا الكثير من الألم والعذاب على أمل الخلاص من الاحتلال والوصول الى السلام العادل والدائم، الا انه لم يحصد الا القليل القليل، ولم يتحقق السلام المنشود. وتولدت لدية قناعة تكاد تكون راسخة بانه اذا لم يتحرك للدفاع عن السلام العادل الذي ينشده، وعن ارضه، وعن حقوقه التي تضمنتها الاتفاقات فلن يتحرك احد لمساعدته. واصبح العالم في نظره متواطئا ضده، وشريكا في ظلم المحتل له. واستخلص من التجربة العملية التي عاشها منذ مؤتمر مدريدعام 1991 وحتى الان، ان مواقف الدول الكبرى من صنع السلام في المنطقة لا تسير في خط مستقيم، ولا وفقا لمبادئ العدالة والحق ونصرة الشعوب المظلومة. وبينت له ايضا ان التحركات والضغوط الدولية لا تسير وفق امنيات ورغبات الشعوب المضطهدة، وهو ومن ضمنها، بل قد تكون متعاكسة معها. وكثيرا ما تكون متأخرة عن التوقيت المطلوب. وان سرعة واتجاهات قوة الدفع التي توظفها هذه الدول من اجل هذا الهدف الانساني النبيل تتحدد وفقا لمصالحها هي اولا، وحسب تقديراتها لمدى الارباح والخسائر التي يمكن ان تجنيها ثانيا. وبينت له التجربة بان العلاقة الخاصة التي تربط اسرائيل بالادارة الامريكية توظف ضده وضد الشعوب العربية الاخرى. ودليله الاخير على ذلك هو صمت الادارة الامريكية على كل الخروقات الفجة والمكشوفة التي ارتكبها نتنياهو بحق الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وصمتها عن تراجعه عن كل التفاهمات التي تم التوصل لها في المفاوضات السورية واللبنانية ـ الاسرائيلية. ووقوفها مؤخرا بجانب اسرائيل في الجمعية العامة للامم المتحدة عندما طرح الموضوع الاستيطان عليها. واستخدامها حق النقض”الفيتو” في مجلس الامن مرتين خلال اقل من اسبوعين، وتعطيلها صدور قرار عنه يستند الى اقتراح اوروبي، يدين ستيطان جبل ابوغنيم .
واخيرا يمكن القول، نجح نتنياهو نجح في تحريك الجرافات الى جبل ابو غنيم. وقد ينجح لاحقا في خلق واقع جديد في هذا الجبل، وفي كل القدس. وقد يفلح في فرض اقتراحه بشطب اسس عملية السلام الجارية، لكنه بالتأكيد لن يستطيع فرض التعايش بين الشعبين، ولا صنع السلام بينهما. فالتعايش والسلام لا يتم الوصول لهما بالقهر والالزام. ومصلحة صنع السلام العادل والشامل في المنطقة تفرض على جميع المعنيين بصنع السلام في المنطقة وبخاصة الراعي الامريكي، ان يستخلصوا العبر من الموجة الجديدة من العنف الذي بدأت تهب على المنطقة، بعد قرار البناء في جبل ابو غنيم والعبث الفردي بمسألة القدس، وخاصة عمليتي تل ابيب والباقورة، ومن حالة الغليان التي تعيشها المنطقة ككل الان. ويسجل لحكومة الليكود بزعامة نتنياهو انها نجحت بتفوق.. في اعادة المنطقة الى اجواء ما قبل انطلاق عملية السلام من مدريد في اكتوبر 1991. فهل هذا النجاح انجاز يستحق ان يكافئ علية اسرائيليا وعربيا ودوليا..؟ ام توحد جهود جميع القوى الاقليمية والدولية المحبة للسلام من اجل منعه عن المضي قدما في توجهاته المدمرة، واعادة الروح لعملية السلام ؟ والسؤال المطروح هل ما زال هناك مجال لذك ؟ لاسيما وان اركان الادراة الامريكية ونتنياهو وضعوا الفلسطينيين امام خيارات صعبة.