عملية السلام اولى ضحايا الجولة الاولى لفضيحة بار أون ـ الخليل

بقلم ممدوح نوفل في 23/04/1997

بعد ترقب وتوتر وطول انتظار، اعلن يوم 20/4/1997 مدعي عام دولة اسرائيل والمستشار القضائي للحكومة نتائج التدقيق والتحقيق في قضية الغش والاحتيال السياسي، التي عرفت بقضية “بار أون ـ الخليل”، او صفقة التصويت على اتفاق الخليل واتفاق اعادة الانتشار في الضفة الغربية. وبصرف النظر حقيقة رؤية وفهم المجتمع الاسرائيلي لهذا الاعلان الهام والخطير، وعن طبيعة قراءة مختلف القوى السياسية الاسرائيلية له، فهو كما اعتقد هزة سياسية عنيفة اصابت النظام السياسي في سرائيل بصورة عامة وحكومة الليكود بصفة خاصة. وهذه الهزة لم تهدأ حتى الان، ويرجح ان يعيش المجتمع الاسرائيلي على وقعها عدة شهور. وهي واحدة من الهزات العنيفة المتتابعة التي ضربت منطقة الشرق الاوسط بعد سقوط سور برلين، وبعد انعقاد مؤتمر مدريد لصنع السلام في الشرق الاوسط عام 1991، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء سمة القطبية الثنائية، السوفيتية ـ الامريكية، التي تحكمت بالوضع الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولمدة زادت عن اربعين عام، ووبعد ان سيطر قطب اوحد “الولايات المتحدة الامريكية” على النظام الدولي. والتعمق في بحث جذور هذه الهزة والعومل المحركة لها، يبن ان اتفاق اوسلو وما انبثق عنه من اتفاقات فلسطينية اسرائيلية كانت المحرك الرئيسي لها. فلو لم تكن هناك عملية سلام ومفاوضات ومشاريع اتفاقات مع الفلسطينيين حول الخليل وسواها، لما احتاج الثنائي نتنياهوـ هنغبي للجوء للغش السياسي، ولعقد صفقات مشبوهة مع اريه درعي زعيم حركة شاس.
ومهما حاولت بعض القوى السياسية الاسرائيلية، وبخاصة نتنياهو وحلفائه من قوى اليمين، تبسيط اسباب هذه الهزة، وتصغير نتائجها المباشرة، ولجم تفاعلات اللاحقة على وضع الحكومة الاسرائيلية، فالمرجح أنها ستترك بصمات سلبية واضحة داخل المجتمع الاسرائيلي، وعلى تركيبة الحكومة وعلى العلاقات داخل الائتلاف الحكومي، وعلى علاقة كل القوى الحزبية بعضها ببعض. واذا كان مدعي عام الدولة اعلن ادانة اريه درعي زعيم حركة شاس، واغلق ملفي نتنياهو وهنغبي دون ادانتهما، فالمرجح ان يكون هذا الاقفال اقفال مؤقت، واقفال من طرف واحد وليس من قبل كل الاطراف المعنية والمهتمة بهذه القضية. لاسيما وأن اريه درعي زعيم احدى القوى المشاركة في السلطة سيمثل امام المحكمة التحقيق القضائي، والتحقيق سوف يتواصل وفقا لقرار المدعي العام مع اكثر من شخصية سياسية من ضمنها مدير ديوان رئيس الوزراء “نتنياهو”،. ناهيك عما يمكن ان يسفر عن الالتماسات المرفوعة من قبل اكثر من طرف لمحكمة العدل العليا في اسرائيل، وعن نتائج احتدام المعركة السياسية التي اشتعلت بين مختلف القوى، وعن التحركات الجماهيرية التي يتوقع ان تقوم بها المعارضة بعد انتهاء فترة الاعياد اليهودية مباشرة.
واذا كان من المتعذر التكهن الآن بكل النتائج السياسية المباشرة وبكل التفاعلات الاحقة التي ستحدثها هذه الهزة في المجتمع الاسرائيلي، فالواضح انها محطة حاسمة في مسيرة العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وفي حياة ومستقبل عملية السلام، وبخاصة على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي، وعلى الاتفاقات التي توصل لها الطرفان. ويمكن الجزم من الآن بان عملية السلام والاتفاقات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية هي اولى ضحايا هذه الهزة السياسية القوية. واذا كان اريه درعي هو الضحية الصغرى في الجولة الاولى لقضية بار أون ـ الخليل، فالاتفاقات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية هما الضحية الكبيرة، حتى لو استؤنفت المفاوضات بين الطرفين بعد بضعة شهور. وأظن ان الجمود الذي اصاب المفاوضات على المسارين السوري واللبناني قبل صعود نتنساهو للسلطة، قد تحول بعد هذه الهزة الى حالة وفاة مؤكدة حتى لو لم يعلن احد ذلك بصورة رسمية حتى الآن.
وبالتمعن في التفاعلات الاولية لنتائج التحقيق التي اعلنها مدعي عام الدولة يمكن القول ان نظام الحكم في اسرائيل دخل في دوامة من عدم الاستقرار السياسي والحزبي. ومن البديهي القول ان العملية السلمية دخلت هي الاخرى مع المجتمع الاسرائيلي في ذات الدوامة. فالهزة نشطت اوضاع المعارضة ووحدت حزب العمل، واسقطت فكرة حكومة الوحدة الوطنية التي كان ينادي بها بيريز لاسباب شخصية. ونتنياهو اليوم اضعف بكثير من نتنياهو الامس حتى لو تظاهر بالتماسك، ونجح في المحافظة على وحدة الائتلاف الحكومي. وغياب الادانة القضائية له في الجولة الاولى من التحقيق لا يلغي امكانية ادانته قضائيا في الجولة او الجولات اللاحقة التي ستستأنف بعد ايام. وعدم الادانة الجزائية له لم يسقط الادانة السياسية التي ثبتت ضده. ونتنياهو المدان سياسيا والضعيف حزبيا والمهزوز داخليا سيصبح اشد تطرفا من نتنياهو القوي الواثق من نفسه. وسيستأسد ضد الفلسطينيين سلطة وشعب وارض، وسيستشرس في النضال ضد مسيرة السلام على طريق اوسلو، وضد كل الاتفاقات التي تمخضت عنها. وبصرف النظر عن قناعاته الايدلوجية وتوجهاته السياسية الخاصة فقد أصبح، شاء أم أبى، اسيرا اكثر من اي وقت مضى للقوى الاكثر تطرفا ويمينية في المجتمع الاسرائيلي وداخل الحكومة، والاشد عدوانية ضد السلام مع العرب عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص. ومع انتقال المعركة على يد المعارضة للشارع في الايام والاسابيع القليلة القادمة، سيعود نتنياهو للتمترس في خنادقه الايدلوجية المقفلة باعتبارها احصن المواقع واقواها للدفاع عن النفس وعن بقائه في السلطة، وللمحافظه على تحالفاته السياسية والحزبية. وسيعمل وباقصى سرعة على تجمع معسكره المتطرف من حولة في مواجهة التحركات المتوقعة من قبل الفلسطينيين دفاعا عن حقوقهم التي نصت عليها الاتفاقات، ومن قبل المعارضة الاسرائيلية الراغبة في اسقاطه واسقاط حكومته. فهو يدرك بان المعركة التي فتحت ضدة هي معركة حياة او موت سياسي، ويعرف بان التحصن في الخنادق الايدلوجية، ومناصبة العرب والفلسطينيين العداء، وتغذية الحقد والكراهية لهم، والعودة لذات الشعارات التي رفعها ابان حملته الانتخابية ـ عدم التنازل عن ارض الميعاد، واتهام حزب العمل وميرتس بالتفريط، وتمويت اتفاقات اوسلو، واطلاق العنان للمستوطنيين للتوسع في الاستيطان وبخاصة في القدس ـ هي افعل الوسائل لتعبئة وحشد طاقات جمهوره المتطرفه، واقصر الطرق المؤدية لتطبيق النظرية التي يؤمن بها، والقائلة بان افضل وسائل الدفاع هو الهجوم. وتصريحاته هو ووزير داخليته جول الاستمرار في الاستيطان في القدس الشرقية، وتغيير ديمغرافيتها ورفع نسبة السكان اليهود فيها الى 80% تقع ضمن هذا الاطار.
وتجربة خمس سنوات من المفاوضات ومن العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية تؤكد بأن تعرض الحكومة الاسرائيلية ـ عمالية كانت او ليكودية ـ لمتاعب وازمات داخلية، تصيبها بالضعف والارتباك، يؤثر تأثيرا سلبيا مباشرا على مواقفها من عملية السلام. وتدفعها فورا باتجاه تجميد او ابطاء حركتها في المفاوضات. وتفتح شهيتها على المماطلة في تنفيذ الالتزامات، وتأخير تنفيذ الاتفاقات والتلاعب بنصوصها، وبخاصة مع الفلسطينيين حتى لو كانت ممهورة بتواقيع شهود دولين. وذات التجربة تؤكد ايضا ان التخلص من هذه المتاعب والازمات يتم عادة على حساب مصالح الطرف الفلسطيني باعتباره الاضعف في المعادلة السياسة القائمة.
واظن ان نتنياهو لن يتأخر كثيرا كي يشرع في ترجمة توجهاته القديمة الجديدة. فسيتعمد من اليوم قبل الغد الى تأخير استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وتأجيل تنفيذ الانسحاب الامني والاداري المحدود من منطقتي “ب” و “ج” في الضفة الغربية الذي سبق ووافق عليه. والساذج وحده هو من يعتقد بان هناك انسحابا أخر في ايلول القادم حسب الجدول الزمني لاتفاق اعادة الانتشار. وسيعمل نتنياهو واركان الليكود على تصدير ازمتهم الداخلية للخارج ليحرفوا الانظار عنها. ومن المتوقع ان يرفع من وتيرة ضغطه على السلطة الفلسطينية، ومن غير المستبعد ان يعمل على توتير العلاقة معها الى اقصى الحدود، على قاعدة تقصيرها في محاربة الارهاب وفي ضرب المتطرفين، وعدم الالتزام بتنفيذ التزاماتها الكاملة حسبما وردت في الاتفاقات. ولعل اولى تصريحاته بعد الاعلان عن نتائج التحقيق والتي قال فيها “بان على الفلسطينيين ان يقدموا التنازلات اذا ارادوا للمفاوضات ان تستأنف”، دليل مادي ملموس على نيته في ارتكاب هذه الجريمة بحق عملية السلام.
واذا كانت القوى اليمينية المتطرفة قد نجحت في العام الاول من عهد نتنياهو في تجميد المفاوضات مع السوريين واللبنانيين، وماطلت واطالت امد المفاوضات مع الفلسطينيين، وأجلت تنفيذ الاتفاق حول الخليل وحول اعادة الانتشار في الضفة الغربية فترة 6 شهور، ونجحت في انتزاع قرارات كثيرة تتعلق بمصادرة مزيد من الاراضي الفلسطينية والتوسع في الاستيطان في كل انحاء الضفة الغربية وآخرها قرار الاستيطان في جبل ابوغنيم “هار حوماة” فالواضح ان هذه القوى اصبحت بعد الهزة اكثر قدرة على التأثير في قرارات الحكومة، واكثر قدرة على انتزاع مزيد من القرارات والتوجهات المعادية لروح عملية السلام ومتطلباتها، وفرض مزيد من الخطوات العملية المضادة للاتفاقات مع الفلسطينيين والمعادية لهم. ومن غير المستبعد ان يقدم المستوطنون، وبخاصة المتطرفون والعنصريون منهم على ارتكاب بعض المجازر ضد الفلسطينيين. فتصرفاتهم الاستفزازية الاخيرة في الخليل والاغوار وريف محافظتي نابلس وقلقيلية تشير الى انهم قرروا الانتقال من حالة الدفاع الى حالة الهجوم، والقيام بالرد الميداني المباشر على كل عمل يعتبروه عملا عدوانيا او استفزازيا من قبل الفلسطينيين. ومن السذاجة اعتبار سلوكهم هذا معزولا عن تشجيع بعض اقطاب الحكومة.
بعد هذا العرض لنتائج الجولة الاولى من فضيحة بار أون ـ الخليل من حق الجميع ان يتسائلوا وماذا تبقى من عملية السلام التي عرفناها في مدريد واوسلو ؟ وجوابي على ذلك يتلخص بالقول: ان تلك العلية فقدت اسسها وروحها ولم تعد على قيد الحياة. واذا كان الاعلان الرسمي عن ذلك يحرج اصحابها ورعاتها من القوى الدولية، ويدفع باوضاع المنطقة وبخاصة في الاراضي الفلسطينية للاشتعال، فان عدم قيام القوى الدولية الكبرى بطرح البديل المقبول من قبل كل الاطراف لا يغير من النتيجة. وبصرف النظر عن ما يمكن ان تقوم به هذه القوى وبخاصة الادارة الامريكية يبقى السؤال المركزي المطروح على كل الفلسطينيين سلطة ومعارضة داخل الوطن وخارجه، هو ما العمل في مواجهة نتائج وتفاعلات الجولة الاولى والجولات اللاحقة لفضيحة بار اون الخليل. وعلى الجميع ان يدركوا بأن بديل البحث عن السلام هو دمار لجميع اطراف المنطقة، وبخاصة للطرف الفلسطيني والعربي ودمار لمصالح الدول الكبرى فيها.