قرار نتنياهو دخول مناطق السلطة شرارة لاشعال حريق واسع

بقلم ممدوح نوفل في 06/09/1997

تؤكد التجربة التاريخية للشعوب انه عندما يكون هناك صراع يجري العمل على حله، يكون هناك متضررون ومستفيدون. وكلما اقترب المستفيدون من الحلول او حلحلة بعض مشاكلهم، يتوحد المتضررون ويصعدون من اعمالهم التعطيلية والتخريبية. والتجربة الفلسطينية الاسرائيلية لم ولن تشذ عن هذه القاعدة السياسية. فعندما تكون المفاوضات بين الطرفين معلقة ومجمدة، ويكون الرعاة غائبون، يقعد المتطرفون من الطرفين صامتون يتفرجون بسرورعلى مناكفات وصراعات الطرفين وعلى كل ما يجري بينهما على الارض وخارجها. وما ان يسمع بعضهم عن نية طرف ما القيام بحركة ما لاخراج عملية السلام من مأزقها على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي، او اشاعة اطلقت “لغرض ما في نفس يعقوب”، عن نية طرف ما تقديم مبادرة او التحرك لاحيائها وتحريكها للامام، حتى تدب فيهم الحمية والنشاط. وسرعان ما يخرجون من مخابئهم كل أدوات الهدم والتخريب المتوفرة لديهم. ويشرعون في ترصد عملية السلام عند احدى المنعطفات الصعبة ليتناوبوا على هدمها رغم انهم متخاصمون. ويتبادلون كيل الضربات لها وهم يقفون على ضفتي النهر وطرفي نقيض. بعضهم يستخدم العبوات الناسفة ويفجرها في مواقع مكتضة بالسكان، بهدف قتل وجرح اكبر قدر ممكن من الابرياء، على أمل ان تحبط الناس وان يكفروا بالسلام. وكي تصبح بعض المصطلحات والتعابيرمن نوع: مفاوضات، اجتماعات بين الطرفين، اتفاقات سلام، احياء عملية سلام..الخ كلمات وجمل ممجومة خالية من اي معنى ومضمون، سوى تذكير اهل الضحايا والمصابين بالمصائب والخسائر البشرية والمادية التي حلت بهم. آخرون من المتطرفين يستخدمون، جرافات..اعتقالات..مصادرات..واغلاقات..هدم بيوت..الخ ليقوموا بذات المهمة ولذات الهدف، ولتشتم عملية السلام ليل نهار وليشتم القيمون عليها.
اعتقد بان المقتنعين بهذا الفهم السياسي لمواقف الاطراف الفلسطينية والاسرائيلية من عملية السلام، وبهذه النظرة للعمليات التي تتم بين فترة واخرى، لم تفاجئهم عمليتي القدس الاولى والثانية، اللتين وقعتا خلال اقل من 40 يوم. ولن يتفاجئوا اذا وقعت في الايام والاسابيع القليلة القادمة عمليات اخرى، خاصة اذا نجحت زيارة اولبرايت ولو بشكل محدود. فعملية محنية يهودا تمت في 30/7/1997 لتعطيل اتخاذ الادارة الامريكية قرارا بتجديد رعايتها لعملية السلام، وتقديم مقترحات العملية لاحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وعملية شارع بن يهودا تمت في 4/9/1997 لان اولبرايت قررت زيارة المنطقة وحددت موعدها، وطرحت توجهات تصلح لاستئناف المفاوضات وبعث بعض الحيوية فيها.
وحسنا فعل الرئيس كلينتون عندما قرر لوزيرة خارجيته ان تمضي قدما في مهمتها. ومن السذاجة الاعتقاد بانها لن تحدث تعديل جوهري في جدول اعمالها، وبخاصة ما يتعلق بمسار المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وبالعلاقات بين الطرفين. ومن البديهي القول ان مباحثاتها مع الجانب الفلسطيني سوف تتركزعلى مسالة الامن، ليس لان هذه المسألة تمثل هوسا عند نتنياهو ويصر على حصر البحث فيها، بل لان الدلائل والمؤشرات تشير الى رضوخ السيدة اولبرايت لمطالب المتطرفين وجعل مسألة الامن النقطة المركزية، ان لم تكن الوحيدة، على جدول اعمالها. وطالما ان الوزيرة تفاعلت مع اهداف اعداء عملية السلام ومفجروا العبوات، فلعل من المفيد لها ولكل المعنيين بتوظيف موضوع الامن في خدمة السلام، وليس في قتله، ان يعالجوا العمليتين وموضوع الامن بابعاده ومفهومه الاستراتيجي وليس الطارئ المباشر كما يريد نتنياهو وبقية المتطرفون. وفي هذا السياق لعل من المفيد للسيدة اولبرايت رؤية الحقائق التالية عند معالجة الموضوع:
1) ان منطلقات نتنياهو في اتهام السلطة الفلسطينية ورئيسها بالتقصير، سياسية بالاساس. ولا علاقة لها بالتقديرات الامنية السليمة، ولا بتقارير رؤساء أجهزة الامن الاسرائيلية. فنتنياهو يعرف اكثر من سواه بان العمليتين الحقتا اضرارا واسعة بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني على اكثر من صعيد وفي اكثر من اتجاه. وقدمتا خدمة كبرى للمواقف والسياسات المعادية لعملية السلام، وأظن ان القدر استجاب لرغبة نتنياهو بوأد عملية السلام. واتهام نتياهو للسلطة وعرفات بالتقصير في محاربة الارهاب ينطوي من زاوية التحليل الامني على اتهام مباشرلأجهزة الامن الاسرائيلية بالفشل. فالعملية الاخيرة تمت بعد عودة التنسيق الامني الفلسطيني الاسرائيلي الامريكي الى مجراه الطبيعي. فاذا كان الامن الفلسطيني قد قصر في كشف العملية قبل وقوعها فتقصير اجهزة الامن الاسرائيلية ومعها المخابرات الامريكية والاوروبية وبعض الاجهزة العربية أفحش، لاسيما وان جميعها كانت معلنة الحرب دون هوادة على الارهاب منذ سنوات ولم تتوقف لحظة واحدة عن مكافحته، وبعضها كان مستنفرا تحسبا لوقوع العملية جديدة.
2) اعتقد بان علماء علم الامن، وخبراء مكافحة الارهاب يعترفون بان مكافحة الاعمال الانتحارية ليس سهلا. وان الاساس في منع وقوعها هو العمل الاستخباري المسبق طويل النفس. وتفعيل الامن الوقائي ببعديه الداخلي الامني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبعده الخارجي المدروس بدقة، استخباريا وسياسيا. وليس بالتخبط، “وفشة الخلق” في الغير. واعتقد بان دفع السلطة الفلسطينية نحو خرق حقوق الانسان الفلسطيني وفرض قانون جائر على شعبها يقول “المشبوه مدان، ويجب ان يبقى قيد الاعتقال ريثما تثبت براءته”، لا يعالج المشكلة. فدفعها نحو شن حملة اعتقالات شاملة ضد البنية التحتية لحركتي حماس والجهاد الاسلامي بما في ذلك اغلاق مؤسساتها الانساسية واعتقال قادتها وكوادرها السياسية، التي لا علاقة لها بالعمل العسكري، لن يقلص نسبة العمليات العسكرية ضد اهداف مدنية اسرائيلية، بل يؤججها. ولن يوقف الارهاب وانما يقدم له دوافع ومحفزات ومنشطات جديدة منها اطلاق سراح القادة المعتقلين ورفع الظلم عن الابرياء..الخ. ولا أفهم كيف تطالب الادارة الامريكية عرفات بمثل هذا الطلب، وتستهجن لقائه مع قادة المعارضة وضمنهم قادة حماس في الوقت الذي يصول ويجول ممثل الجيش الجمهوري الايرلندي ارجاء الولايات المتحدة الامريكية ويقابل رسميين امريكيين.
3) أظن اني لا أكتشف البارود من جديد او أكشف سرا جديدا، اذا قلت بأن حركتي حماس والجهاد الاسلامي جزء من تيار عقائدي سياسي اقليمي معارض لعملية السلام، وغير مقتنع بخطوات السلام التي تمت حتى الان. وله مصالح جوهرية مشتركة في تعقيد عملية السلام على مسارها الفلسطيني، وتخريب العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، يساند، بدوافع عقائدية، بعضه بعضا، سياسيا ماديا ومعنويا لمقاومتها وقتل ما نشأ عنها من اتفاقات. ويفترض بالوزيرة اولبرايت وبمساعديها ان يكونوا مدركين بان استقرار الاوضاع الامنية الاسرائيلية وفي الاراضي الفلسطينية، بصورة مقبولة او شبه مقبولة، ليس مرهونا بالنشاط الامني الفلسطيني فقط، او الفلسطيني الاسرائيلي الامريكي المشترك، بل وأيضا باستقرار الوضع الامني العام في المنطقة ككل، لا سيما وان القضية الفلسطينية يتداخل فيها الوطني بالقومي بالاممي الاسلامي، وهذا التداخل كفيل بارساء اسس قوية لتعاون مشترك لخدمة الاهداف السياسية والامنية المشتركة.
4) تعرف القيادة الاسرائيلية والسيدة اولبرايت بان قيادتي حركتي حماس والجهاد الاسلامي المقررة لا تقيم في الاراضي الفلسطينية المحررة، او التي ما زالت تحت الاحتلال. وان نوعية وتوقيت نشاط دواخلهما وبخاصة الامني والعسكري يقرر من الخارج في اطار هيئات قيادية عسكرية أمنية خاصة، ويخضع لمصادقتها قبل التنفيذ. وتجربة الاسرائيليين مع العمل العسكري الفلسطيني وضمنه العمليات الخاصة الانتحارية تؤكد بأن دور الخارج لا يقتصر على التخطيط والتقرير فقط، بل كثيرا ما تحمل الخارج مسؤولية كاملة وكلية عن التحضير والنقل والتنفيذ، ودون الاعتماد على بنية تحتية محلية. واعتقد بان حالة القهر والاحباط التي يعيشها اللاجئون والنازحون الفلسطينيون تشكل ارضية خصبة لنشاط القوى الفلسطينية والاقليمية المعارضة لعملية السلام، ولتفريخ انتحاريون ايضا. ويعرف رجال المخابرات والاستخبارات الاسرائيلية والدولية ان تنفيذ عمليات خاصة انتحارية لا يتطلب بنية تحتية طويلة عريضة سهلة الكشف كما يقول نتنياهو. وان كل ما يحتاجه يمكن ترتيبه مسبقا من الخارج، او بالاستعانة بعدد قليل جدا من الداخل لا يتجاوزعدده اصابع اليد الواحدة، وان هذا العدد البسيط يمكن ان يبقى سريا لفترة طويلة جدا، لا سيما وان بالامكان اخفائه حتى على المنفذين.
5) الكل يعرف بان عملية شارع بن يهودا 4/9/97 تمت والاغلاق مفروض على مناطق السلطة الفلسطينية. وان منح بضع آلاف من العمال الفلسطينيين تصاريح عمل لا يعني ان الطوق الامني المضروب على الضفة والقطاع منذ 30/7/1997 قد رفع، وتسبب في نجاح المفجرون المنتحرون في الوصول لهدفهم. واجهزة الامن الاسرائيلية تعرف تماما ان لا علاقة اطلاقا بين العملية الاولى او الثانية برفع الطوق الامني. ويستطيع كل مبتئ في علم الامن التأكيد بان العقوبات الجماعية ضد الشعب، ومنع ما لايقل عن نصف مليون انسان (100ألف عامل مع اسرهم) من الحصول على قوتهم، ومنع سكان المدن والقرى من التواصل فيما بينهم هو الذي يقوي التطرف والارهاب، ويولد القهر ويخلق محفزات للانتقام. ويضعف قدرة اجهزة الامن الفلسطينية والاسرائيلية على انجاز مهامها، ويربك عملها اليومي، ويسهل على المتطرفين ايجاد اناس مستعدون للانتحار في مواجهة الظلم والجوع. وتحميل نتنياهو السلطة الفلسطينية مسؤولية وقوع العمليتين خلال اقل من 40 يوم، ليس سوى تهرب من تحمل المسؤولية. وهروب من الاعتراف للشعب الاسرائيلي بفشله في تحقيق الامن الذي وعدهم بتحقيقه، ومن الاعتراف بالحقيقة القائلة لا أمن بدون سلام.
وبصرف النظر عما ستقوم به اولبرايت وما سيقوم به نتنياهو قبل وبعد زيارتها تبقى الحقائق اقوى من كل الاجراءات وسيبقى الامن الاسرائيلي الاستراتيجي وليس التكتيكي مربوطا بعملية السلام فبمقدار تقدمها الجوهري يضعف ويتراجع المتضررون وعكس ذلك صحيح. لقد جربت اسرائيل نظرية نتنياهو نصف قرن وأكدت وقائع الحياة فشلها، الا انه مصر على التمسك بها وتطبيقها، لان الاعتراف بفشلها ينسف معتقداته وينهي وجوده في السلطة. ويمكن القول ان تمترسه عند مواقفه ستعيد لنا وللاسرائيليين وللعالم صورة الانفجارات التي وقعت في سوق محنية يهودا وفي شارع بن يهودا بأشكال متنوعة. وسنعود كثيرا اسرائيليون وفلسطينيون وامريكيون لسماع ذات النغمة من نتنياهو حول الامن وحول تقصير السلطة الفلسطينية في مكافحة الارهاب، وسماع اصوات حناجر الفلسطينيين رجال ونساء عمال وتجار وطلاب وفلاحين ومثقفين وهم يحتجون ويستنكرون العقاب الجماعي الذي يمارس ضدهم، لحين وقوع الانفجار الكبير. وقراره عدم تنفيذ الانسحاب الثاني من الريف الفلسطيني، وان تأخذ اجهزة الامن على عاتقها وحدها مسؤولية مكافحة الارهاب بما في ذلك داخل مناطق السلطة الفلسطينية يعني من ناحية دفع هذه الاجهزة نحو فشل محتم، ودفعها ثانيا نحو الدخول في صراع مباشر ومكشوف مع اجهزة الامن الفلسطينية بدلا من التعاون معها في مكافحة كل ما يلحق الضرر بعملية السلام وبمصالح الطرفين. ناهيك عن كونه قرارا انفعاليا متسرعا يحمل في طياته مخاطر التحول بسرعة الى شرارة تشعل قتالا واسعا بين السلطة وحكومة نتنياهو. ضحيتها الاولى هما الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، والجهود الدولية التي بذلت من أجل صنع السلام في المنطقة وتعايش الشعبين على ارض واحدة. ومهما حصل في الايام والاسابيع القادمة، تبقى اجراءات نتنياهو وقراراته تندرج في خانة الانتقام من شعب يكن له الكراهية والعداء اسمه الشعب الفلسطيني حتى لو غلفها بدماء الاسرائيليين.