من المستفيد من بحث اعادة الانتشار بغياب الراعي الامريكي ؟
بقلم ممدوح نوفل في 13/10/1997
بعد تجدد الرعاية الامريكية لعملية السلام، واستئناف المفاوضات على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي على مختلف الصعد والمستويات بمشاركة امريكية كاملة، ولقاء نتنياهو بعرفات بعد قطيعة طويلة، هل يمكن القول بان الوزيرة اولبرايت نجحت في اعادة الحياة لعملية السلام، وانها عاقدة العزم على انعاشها على المسار الفلسطيني الاسرائيلي؟ وهل يمكن “للعتب” الامريكي على نتنياهو، الذي نسمعه هذه الايام، ان يتحول في عهد كلينتون ـ اولبرايت، الى “زعل” جدي، شبيه بما حصل اواخر عهد ادارة بوش ـ بيكر ونهاية حكم شامير؟ وهل سينجح العرب والفلسطينيون في استثمار الاحداث التي وقعت منذ زيارة اولبرايت للمنطقة؟ اسئلة كثيرة ومتنوعة تدور الآن في الشارع الفلسطيني، وفي اوساط القوى الفلسطينية المراقبين السياسيين. وقد يكون من المبكر اعطاء اجابات جازمة على هذه الاسئلة وسواها. فالترقب الحذر ما زال سيد الموقف، ومواقف الاطراف ما زالات متحركة ولم تستقر حتى الان. ورغم ان الجميع بانتظار الخطوات اللاحقة التي ستقوم بها ادارة كلينتون، وما سوف يتمخض عن جولة روس الجديدة، وعن اجتماع واشنطن المقرر نهاية الشهرالجاري، الا ان مواقف مختلف الاطراف منذ زيارة اولبرايت للمنطقة جعلت الامور أكثر وضوحا عما كانت عليه من قبل. فاستئناف المفاوضات على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي وبمشاركة أمريكية قوية أكد بان القوى الاقليمية في الشرق الاوسط بما فيها اسرائيل، لا تستطيع، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، الصمود طويلا في مواجهة القطب الاوحد وتحدي توجهاته الاستراتيجية. وان مواقفها، مهما تمردت، تبقى محكومة بالسقف الذي تحدده الادارة الامريكية. فقبل زيارة اولبرايت للمنطقة اوائل شهر ايلول الماضي، كان نتنياهو يرفض اللقاء بياسرعرفات وكان اركان الائتلاف الحكومي يتهموه بالتواطئ مع الارهابيين واستخدام اعمالهم اوراق ابتزاز. وكانوا يضعون شروطا ابتزازية كثيرة للتهرب من استئنافها. اخفها ضرب البنية التحتية لحركة حماس، وتقليص عدد افراد الشرطة الفلسطينية واجراء تغيرات في قيادتها، واستكمال اجراءات الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني..الخ وبالمقابل كان للطرف الفلسطيني ايضا شروطه لاستئناف المفاوضات، وللقاء رئيس السلطة الوطنية مع نتنياهو. أهمها تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية ووقف البناء في جبل ابوغنيم، والتزام حكومة نتنياهو تنفيذ مرحلتي انسحاب القوات الاسرائيلية واعادة نشرها في الارياف الفلسطينية، اللتين استحقتا في آذار وايلول الماضيين. الا انهما اضطرا للتراجع عن معظم شروطهما، وحولا بعضها وفقا لرغبة الادارة الامريكية، الى نقاط تبحث داخل الغرف في اطار جدول اعمال المفاوضات بعد استئنافها، وتبخر بعضها الآخر. اما عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي فقد تلقت في الشهرين الاخيرين حقنة سياسية أمريكية اقوى وافعل من الحقنة الكيماوية القاتلة التي اعطاها نتنياهو لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس “خالد مشعل”، اواخر ايلول الماضي، بأمل تشييعها نهائيا لمثواها الاخير. صحيح ان الحقنة الامريكية لم تعيد الحياة والحيوية الحقيقية لعملية السلام، ولم تخرجها بالكامل من مأزقها، ولم تنقذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، كما انقذ العلاج “الاسرائيلي” الحياة لمشعل واخرجه من المستشفى، لكنها خلقت اجواء ايجابية حول امكانية تحقيق ذلك.وعقدّت على نتنياهو دفن عملية السلام وشطب الاتفاقات بصمت دون تحمل المسؤولية عن ذلك. وجمدت تدهور العلاقة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، ونزعت فتيل الانفجار. وبينت الاحداث التي وقعت مؤخرا، وبخاصة تحرش نتنياهو بالاتفاقات الاسرائيلية الاردنية، وما يمكن ان ينشئ عن محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس من مضاعفات، خطأ موقف الادارة الامريكية، حين اعتقدت لفترة ليست قصيرة بان الاوضاع في الشرق الاوسط لا تبعث على القلق. وبان نتنياهو قادر بسياسته الحازمة القضاء على التطرف والارهاب، وتنفيذ وعده بتحقيق الامن مقابل السلام. وبان لا ضرورة للضغط علية للالتزام بالمبدأ الاساسي الذي قامت عليه عملية السلام، وهو مبدأ الارض مقابل السلام. فلم تحترم قواعد عملية السلام التي وضعتها في مدريد واسلو لاعتقادها بانها اصبحت قديمة ومستهلكة وصارت عقبة امام تحقيق انطلاقة جديدة في المفاوضات. وكادت ان تنزلق باتجاه تبني مواقف نتنياهو الداعية للقفز عن المرحلة الانتقالية وكل استحقاقاتها والذهاب مباشرة لمفاوضات الحل النهائي. ولم تضغط على حكومة الليكود باتجاه احترام الاتفاقات التي وقعها الرئيس كلينتون وعدم القيام باعمال احادية الجانب تمس بالاتفاقات وتلحق اضرارا بعملية السلام وبالمصالح الامريكية في المنطقة. وتركته يحاول فرض شروطه لاستئناف المفاوضات، وفرض صيغة جديدة للعلاقة الاسرائيلية الفلسطينية الرسمية، مقابل طيه صفحة دعمها لبيريز في انتخابات الكنيست الاخيرة، وارضاء انصار وحلفاء اسرائيل في الكنغرس. فكانت النتيجة عكس ما قدر، ونشأت مخاوف اضافية حول مصير الاتفاقات الاردنية المصرية ـ الاسرائيلية. وبصرف النظر عما سيحمله “دينس روس” في جعبته، فالحركة الامريكية الاولية التي تمت منذ زيارة اولبرايت للمنطقة، وحرصها على تجديد رعايتها للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية بقوة، زاد من مسؤولياتها الادبية امام الرأي العام الامريكي وامام القوى الدولية والاقليمية عن فشل او نجاح العملية. ومهما تكن طبيعة الخطوات اللاحقة التي ستقوم بها الادارة الامريكية، يمكن القول بانها ورّطت نفسها في ورشة عمل طويلة عريضة. ولم يعد بامكانها التراجع عما قامت به بسهولة. كما لا يمكنها التوقف في منتصف الطريق بعدما لمست بان درجة احتقان اوضاع المنطقة اكبر مما كانت تتصور. وان ترك اطراف الصراع يتحركون على هواهم كفيل بتفجير علمية السلام وهدر الجهود الكبيرة التي بذلتها للآن. ويعرض اهم هدفين تسعى اليهما لاخطار حقيقية واشنطن، وهما استقرار استثماراتها النفطية وتوسيعها، وامن اسرائيل باعتباره جزء من استراتيجيتها الدولية. واصبحت الوزيرة اولبرايت وطاقمها المساعد مطالببين اكثر من اي وقت مضى بايجاد حلول عملية مقبولة من الطرفين للقضايا الاساسية المختلف حولها. واذا كانت ادارة الرئيس كلينتون ما زالت تحجم عن طرح مبادرة أمريكية متكاملة، وترفض تقديم اقتراحات محددة، فالواضح ان هذا الموقف استهلكه الطرفان، وتآكل مع الزمن. ولم يعد يصلح لتقريب وجهات نظريهما، ولا يتناسب مع التوجهات الامريكية المعلنة ولا يخدم حماية مصالحها. وتدرك الوزيرة اولبرايت اكثر من سواها بان اعمال اللجان الفرعية التسع لن تعالج المشكلة، وأن ما تم حتى الان اشبه بعملية التخدير التي يجريها الاطباء عادة كمقدمة لاجراء العمليات الجراحية. وبان عملية التخدير هذه قد تتحول الى عمل قاتل يتحمل الاطباء عادة مسؤوليته اذا لم تجري العملية في الوقت المناسب. وأظن السيدة اولبرايت أصبح في سباق مع الزمن ومع ما يمكن ان يقوم به المتطرفون. وصارت مصالبة بتجاوز مرحلة الاستماع لوجهات نظر الطرفين ومحاولة تقريبهما بعضها مع بعض. وستجد نفسها في اجتماع واشنطن المقرر عقده قبل نهاية هذا الشهر مجبرة على المجاهرة برأيها في الترجمة العملية للمسألة المركزية المطروحة على جدول اعمال الاجتماع، وهو مبدأ الارض مقابل السلام، وترجمته الانسحاب من الارض ووقف استيطانها. فالجانب الفلسطيني ذاهب لواشنطن ليسمع رأيها في رفض نتنياهو الالتزام عمليا وبالملموس بهذا المبدأ، بعد ان سمع رأي نتنياهو مرات كثيرة، وكان آخرها في اجتماع ايرتز. حيث حاول بفهلوية ممجوجة انتزاع موافقة فلسطينية اولية على تأجيل تنفيذ المستحق من الانسحاب واعادة الانتشار، والدخول فورا في المفاوضات حول قضايا الحل النهائي. وترتكب السيدة اولبرايت خطأ فادحا بحق عملية السلام وبحق شعوب المنطقة، اذا ترددت عن اجراء الجراحة المطلوبة. وتأخرت في استثمار الاحداث التي وقعت، وتلكأت عن استغلال المأزق الذي صنعه نتنياهو لنفسه ولاجهزة الامن الاسرائيلية. وبالمقابل تخطئ القيادة الفلسطينية بصورة أكبر بحق مصالح شعبها، وبحق نفسها، اذا هي ساهمت في اخراج نتنياهو من مأزقه الداخلي والخارجي وفرّجت ازمته القائمة حاليا مع الامريكان. وفي هذا السياق، لا أفهم الحكمة التي وقفت خلف الموافقة الفلسطينية على عقد لقاء ايرتز في هذا الوقت بالذات ودون تحضير مسبق، وقبل وصول المبعوث الامريكي، وقبل لقاء واشنطن واتضاح حقيقة الموقف الاسرائيلي من المسائل المطروحة على جدول اعمال اللجان. فبصرف النظرعن النوايا، فالاجتماع تم في وقت خاطئ تماما. وكان الاجدى تأجيله الى ما بعد لقاء واشنطن. ومكّن نتنياهو من ضرب عدة عاصفير دفعة واحدة. فقد اضعف زخم الحركة الامريكية وامتص قوة اندفاعتها. واشاع اجواء مضللة خارج اسرائيل وداخلها حول حرص نتنياهو على عملية السلام واستعداده الدخول في مفاوضات جدية مع الفلسطينيين.اما اتفاق الطرفان في ايرتزعلى تشكيل لجنة مكونة من ابوعلاء رئيس المجلس التشريعي وملوخو مستشار نتنياهو..!! فقد بهت قيمة جولة المفاوضات المقررعقدها في واشنطن اواخر الشهر الجاري للبحث في القضيتين المركزيتين اللتين بسببهما تعطلت المفاوضات، وهما الاستيطان واعادة الانتشار في الضفة الغربية. فبحثهما بغياب الراعي الامريكي افضل لنتنياهومن بحثهما بحضوره. لاسيما وان موقف الادارة الامريكية لم يكن لجانب رفضه تنفيذهما رغم انهما استحقتا في آذار وأيلول الماضيين. وكان ضاغطا باتجاه تنفيذهما بصورة او اخرى، يقبل بها الجانب الفلسطيني. وفي مطلق الاحوال اعتقد بان مشاركة رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني في لجان تفاوضية فرعية او أساسية لا يخدم تعزيز دور المجلس في مراقبة اداء السلطة التنفيذية في شتى المجالات وضمنها المفاوضات. ناهيك عن ان مساواة رئيس المجلس بمستشار لنتنياهو يمس بالمكانة المعنوية للمجلس التشريعي ولرئيسه. ولا اعرف اذا كانت مشاركة رئيس المجلس في المفاوضات سليمة من الزاوية القانونية. واعتقد ان التراجع الآن عن تشكيل هذه اللجنة، والاصرار على بحث ما حدد لها من مهام بحضور الراعي الامريكي خير للمصلحة الوطنية الفلسطينية اكثر بما لا يقاس من الغرق فيها. وبأن انسحاب رئيس المجلس منها اكرم للمجلس وناخبيه ولرئيسه ايضا. ولعل من المفيد ايضا اعادة التذكير بان الثنائية الفلسطينية الاسرائيلية التي اسفرت عن اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات اخرى لا تصلح لكل زمان. وهي بالتأكيد لا تصلح بل، قد تكون ضارة، في زمن نتنياهو وطيلة فترة حكم الليكود. فمصلحة الفلسطينيين ومصلحة صنع السلام في المنطقة تتطلب في زمن نتنياهو وشارون وايتان توسيع المشاركة الدولية والعربية في المفاوضات قدر الامكان. ولا اظن ان لقاء ايرتز ومشاركة الرئيس المجلس التشريعي في المفاوضات سوف تعطل توجهات نتنياهو نحو اضعاف مؤسسات السلطة الفلسطينية وأولها المؤسسة التشريعية.