حول أزمة الوضع الفلسطيني والبحث عن حلول واقعية لها
بقلم ممدوح نوفل في 28/10/1997
يكثر الحديث بين فترة واخرى في الأوساط الفلسطينية الشعبية والحزبية والرسمية حول أزمة السلطة وتدهور احوال منظمة التحرير. ويدور نقاش، ساخن احيانا وبارد احيان أخرى حول سبل الخروج من الازمة، وحول اجراء تغيير او تعديل وزاري سريع كمخرج منها. وترتفع وتيرته وتهبط وفق مجريات عملية السلام، وحالة العلاقة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. وحسب ما يطفو على السطح من احداث واخبار نافرة عن العلاقات الوطنية وعن الاوضاع الداخلية للسلطة، وما يظهرعلى شاشة علاقتها بالمجلس التشريعي. اما جديه هذا الحديث وعملية ذاك النقاش فخاضعان للمناسبات، وهمة ونشاط الفصائل المعارضة للسلطة وكوادر القوى المشاركة فيها. وحسب الجهود الموسمية التي تبذلها مراكز الابحاث ويبذلها المثقفون والكتاب المستقلون في تشخيص الازمة. وقدرتهم على نقد دور السلطة وممارسات أجهزتها، والدخول في بحث معمق عن حلول لها. فاستئناف المفاوضات وتحرك عملية السلام، واستقرار العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية وتمكن العمال من نيل قوتهم، واختفاء السلوكيات الخاطئة للاجهزة، وهدوء الصراعات الفصائلية الداخلية يخفف من وتيرة حديث الاوساط الشعبية الفلسطينية حول الازمة، ويضيق مساحة المشاكل والقضايا التي يتم تداولها في الاوساط الرسمية والحزبية، ويجمد النقاش حول الحلول وعكس ذلك صحيح.
ويستطيع كل مراقب محايد ان يرى ببساطة بان أدق تشخيص للوضع الوطني الفلسطيني، وأعلى وتائر نقد حالته المتدهوره، هو الذي يتم بين فترة وأخرى في اوساط القوى المشاركة في السلطة، وبخاصة الوزراء، وذوي المناصب العليا فيها. لكنه، للأسف الشديد، يجري خارج الاجتماعات الرسمية، وداخل الاطرالحزبية الضيقة في أحسن الاحوال. ويأخذ طابع التندر والتنكيت حول مظاهر الازمة وبخاصة طريقة أداء أجهزة السلطة ومؤسساتها لمهامها اليومية، بما في ذلك اجتماعات السلطة التي تحولت الى لقاءات دورية، موسعة جدا، تضم مجلس الوزراء واعضاء اللجنة التنفيذية والوفد المفاوض وعدد من قادة حركة فتح والمستشارين. وكأن اصحاب التندر والتنكيت ليسوا جزء من السلطة، وبراء من المسؤولية عن استفحال الازمة. اما اوساط قوى المعارضة فاسخن حديثها عن الازمة يتركز حول الامورالسياسية، وبخاصة حالة عملية السلام والمفاوضات والاتفاقات التي تم التوصل لها مع الاسرائيليين، والمسؤولية الفردية والحزبية لاطراف السلطة في خلق الازمة الوطنية وتسببهم في استفحالها. وكأن الازمة الوطنية محصورة في المفاوضات فقط، والمشاركة في عملية السلام هي السبب والخروج منها هو الدواء. وبسبب الموسمية والذاتية الفصائلية والتركيز احادي الجانب، يفتقد الحديث والنقد، في أغلب الاحيان، للشمولية والموضوعية والعملية. ولا يطال المسببات الحقيقية للازمة ومكوناتها وتشعباتها وتعقيداتها. ويحصرها فقط في ما يريد ان يراه هذا الطرف او ذاك، وفي ما يساعده على تبرئة ساحته من المسؤولية، ويعفيه من ملاحقة اطروحاته النظرية اللفظية، وغالبا ما تكون مطروحة للاستهلاك الحزبي والشعبي.
والتدقيق في مضامين الحديث والنقاش الموسمي، المعلن وغير المعلن، حول الازمة وحول سبل الخروج منها، يبين بأن بعضه واقعي وشمولي. يتمحور حول قضايا جوهرية تهم الشأن الوطني العام، ويميز جوانبها الموضوعية عن الذاتية. ويأخذ بعين الاعتبار ارث الاحتلال الثقيل، ودوره في تعطيل تطورالاوضاع الفلسطينية. ويراعي موازين القوى والظروف الموضوعية المحيطة بالوضع الفلسطيني. اما بعضه الآخر فهو ارادوي هروبي، يسقط دور العوامل الموضوعية الخارجية وممارسات الاحتلال في خلق الازمة وتفاقمها يوميا. ويهتم بالشأن الذاتي وبالمصالح الحزبية الضيقة. ويعفي الذات من المسؤولية، ولا يقصر في جلد الغير ويحمل الآخرين كامل المسؤولية عن وجود الازمة وعن عدم الشروع الجدي في معالجتها. وهناك ايضا من اهل السلطة من يحاول ان يطمس الحقائق الثابتة ويخفي الوقائع الملموسة، ويغطي “الشمس بالغربال”، ويتلطى بوجود الاحتلال وممارساته اليومية، وبتخلي العرب عن القضية المقدسة، ويتناسى دور قصور السلطة واجهزتها في بقاء الازمة تراوح مكانها. واذا كانت القراءة الموضوعية للازمة مثلا تحمل الاحتلال مسؤولية تدمير الاقتصاد الفلسطيني وزرع ازمة اقتصادية شديدة التعقيد علاجها صعب ويحتاج لمساعدات خارجية فهذا الامر لا ينطبق على ازمة الديمقراطية وازمة العلاقات الوطنية الداخلية..الخ
والمسؤولية الوطنية تفرض الاعتراف بأن تبسيط الأزمة او إنكار وتجاهل وجودها لا يعالجها بل يعمقها ويوسع نتائجها السلبية. وتفرض ايضا اقرار القوى الحزبية وبخاصة القوى الحاكمة بأن اعفاء الذات من المسؤولية، وإلقائها على كاهل الآخرين، لا يحل الأزمه وفيه هروب من تحمل المسؤولية. وبان عدم الشروع الفوري والجدي في معالجتها يعرض مصير الشعب الفلسطيني لاخطار استراتيجية حقيقية متعددة، ويقوده لكوارث جديدة، تمس حلم جميع الفلسطينيين بالعودة والحرية والاستقلال فترة زمنية طويلة. وان تلكؤ وتأخر السلطة والمعارضة يضاعف من حجم المسؤولية الوطنية الجماعية والفردية. ويفرض على الاجيال اللاحقة دفع اثمان باهظة عن أخطاء وتقصيرات ارتكبها غيرهم وليسوا مسؤولين عنها. وأظن بان التاريخ لن يرحم احدا. فليس هناك قائد او مثقف فلسطيني داخل الوطن او خارجه داعم او مشارك في السلطة او معارض لها او صامت عن اخطائها، يستطيع الادعاء بانه بريء من المسؤولية ولاعلاقة له بوجود الازمة وبتفاقمها. أما دعوات البعض لتأجيل تقييم دور السلطة الفلسطينية باعتبارها حديثة التكوين ولم تأخذ الوقت الكافي لإثبات جدارتها، فأظنها دعوات انتهازية تغلف المصالح الذاتية وتقدمها على المصالح الوطنية العليا. ناهيك عن ان عدم تشخيص الأمراض مبكرا يساعد على استفحالها. واذا كانت المسؤولية تطال الجميع بنسب متفاوتة، فهذا يستوجب الاستعداد الجماعي الجدي لمواجهة القادم المنتظر، القريب منه أو البعيد، وتعطي الحق لمن تطاله ان يدلي بدلوه في الازمة، ورفع صوته النقدي عاليا، وان يبادر من موقعه للمطالبة والعمل ضمن طاقته لمعالجة الممكن منها.
والتعمق في قراءة اوضاع عملية السلام، وقراءة الاوضاع التي تمر بها القضية الفلسطينية، والتأمل في حالة السلطة وحالة المعارضة يظهر بان أزمة العمل الوطني الفلسطيني التي يجري الحديث عنها عبارة عن عدد من الازمات الحقيقية الكبيرة والخطيرة. متساندة في الفروع ومتداخله ومتشابكة في الجذور وتتغذى من بعضها البعض، وتدعم كل واحدة منها الأخرى. واعتقد بانها: اولا، مأزق عملية السلام وانعكاساته على وضع السلطة والوضع الوطني العام. وثانيا مفهوم الديمقراطية واساليب ممارستها في العمل الفلسطيني. ثالثا أزمة تكوين السلطة الوطنية وبرنامج عملها وممارسات مؤسساتها الامنية والمدنية. رابعا أزمة منظمة التحرير الفلسطينية واشكالية علاقتها بالسلطة، واشكالية العلاقة بين الداخل والخارج. والخامسة أزمة منظمات واحزاب وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية “سلطة ومعارضة. وبجانب وأمام كل هذه الازمات هناك الازمة الاقتصادية المستعصية والضاغطة على العقول.
ومن البديهي القول بأن إعتماد القدرية في معالجة هذا الكم من الازمات، وانتهاج مواقف انتظارية سلبية في معالجة هموم الوطن ومشاكل الناس، تضر ولا تنفع، وغير مقنعة للاجئيين ولأهل غزة وأهل الضفة الغربية. وكذلك الإكتفاء بمواقف الردح والتنكيت “سرا” وداخل غرف مغلقة. فهي لا تسمن ولا تغني عن جوع، ولا تصلح الخلل ولا تصحح الأخطاء. وذات الشيء ينطبق على احلال الرغبات والامنيات الذاتية بديلاعن الوقائع، فهي تقود الى حلول وهمية وتضيع الجهود في اتجاهات خاطئة او في اتجاهات ثانوية غير اساسية.
اعتقد بان فكفكة مكونات الازمة بعضها عن بعض يسهّل الحل ويساعد على رؤية الموضوعي منها والطبيعي الناتج عن الإحتلال، وعلى تمييزه عن الطارئ الناشئ عن زراعة الذات “معارضة وسلطة”، ومن صناعة القيادة الفلسطينية وأداء السلطة الوطنية. فالتعامل مع الازمة بالمفرق افضل من التعامل بالجملة. تعامل الجملة يضعف الهمم ويثبط الجهود، ويعقد الحلول، وكثيرا ما يكون اقرب للشعارات. ويفسح المجال لتضيع الاولويات التي يجب ان تنال الاهتمام الاكبر. اما الحلول بالمفرق فهي الأكثر عملية والأقدر على تشخيص المشكلات، وعلى تمييز الخطير منها عن الاقل خطورة. ويسهل على البحائة واصحاب القرار التعرف على الحلقة المركزية التي يجب الامساك بها ومنحها الاولوية في العلاج.
ولا اكتشف البارود اذا قلت بان الدول الحديثة والديمقراطية تعتمد في رسم توجهاتها واتخاذ قراراتها على ما تنتجه مراكز الابحاث والدراسات وما تقدمه باستمرار لمركز صنّاع القرار. ولم تعد تعتمد على الطاقات الذهنية والفكرية والعلمية للوزراء فقط، بل وايضا على ما يقدم لهم من ابحاث ودراسات بصورة مسبقة، تضعهم امام عدة خيارات. وهذه الدول تحرص دوما على تشجيع مراكز الابحاث والدراسات وتدعمها ماديا ومعنويا. ولا تتدخل في شؤونها، وتنفق اقسام كبيرة من موازناتها على بنائها كمؤسسات مستقلة، وعلى تطويرها في الجامعات الاكاديمية. وتسعى لتمكينها ضم أفضل العقول. وتعطيها الاستقلالية والحرية والامان لاجراء ما تشاء من بحوث. وتضع تحت تصرفها ما تطلبه اعمالها البحثية، ولا تحجب عنها اية معلومات. وأظن ان الحديث عن الانجازات وعن الايجابيات ليس من مهمة البحاثة والطامحين للتصحيح والتجديد، ناهيك عن كونه يساهم في التضليل ولا يعالج المشكلات بل يطمسها. اما قمع الحديث عن الازمة او الازمات المتنوعة فتجارب الشعوب والدول تؤكد بانه لا يعالجها بل يزيدها تعقيدا، ويفجرها الواحدة تلو الاخرى في اوقات غير مناسبة. ويقطع الطريق على امكانية الاستفادة من العلاج الصحيح ومن استخدامه في الوقت الصحيح.
في السابق وقبل تشكيل السلطة الوطنية كانت قيادة م ت ف تعقد اجتماعات تستغرق اسابيع وشهور طويلة لنقاش قضية ما، اصغر بكثير من مكونات الازمة التي يمر بها العمل لوطني الفلسطيني. وكان المفكرون والبحاثة يساهمون بحيوية ونشاط، بتكليف من القيادة وبدونه، في بلورة الموقف وتحديد التوجهات الوطنية العامة، وما حصل قبل اقرار البرنامج المرحلي عام 1978، وعلى ابواب اعلان الاستقلال من الجزائر عام 1988، وقبل الذهاب لمؤتمر مدريد عام 1991، نماذج ما زالت حية في الاذهان. اعتقد بان معالجة الازمة الراهنة، وتدعيم بنيان الدولة على الارض الفلسطينية، ومعالجة الاوضاع الداخلية، ومواجهة التطورات الكبيرة القادمة، يتطلب مناقشات اوسع واعمق من الحديث عن تغيير وزاري شكلي، نتيجته الوحيدة استبدال عمرو بزيد. فالتغيير الوزاري يجب ان يسبقه حوار وطني للازمة، يختلف عن حوار الفصائل الذي عرفناه حتى الآن. لاسيما وان وقائع الحياة اثبتت انه لم ينجح في معالجة اي من الازمات، ولم يستطع، حتى في تخدير آلامها القاسية والشديدة. وان يأتي كنتيجة لنفضة داخلية سياسية تنظيمية ادارية واسعة. واجراء مثل هذه النفضة يستحق اشراك المفكرين والعلماء والمثقفيين الفلسطينيين المستقلين المقيميمين داخل وخارج الوطن، وهم كثروا وكفاءاتهم ثمينة. فاشراكهم يصوب الحوار ويمنحه ثقة شعبية أكبر. ويحرر النقاش من قيود الفصائلية، وطموحات المستوزرين والمتسلقين. ويوسع دائرة الرؤيا، ويقربها من هموم الفلسطينيين في الخارج والداخل. ويشرك قطاعات اوسع من الشعب في انجاز المطلوب كل من موقعه وحسب طاقته.
واذا كانت أزمة العمل الوطني الفلسطيني تفرض على السلطة المساعدة في خلق ظروف وطنية مواتية للشروع في العلاج، فيفترض ان لا يكون هناك خلاف وطني على ان رسم الحلول الصحيحة يحتاج الى بحث جماعي حر ومحرر من قيود المواقف المسبقة. فهل تدرك القوى الوطنية الفلسطينية، سلطة ومعارضة، بان مواجهة الاخطار المحيطة بالقضية والمحافظة على وجود الشعب الفلسطيني في أرضه اكبر من كل المصالح الخاصة، وكل المسائل التفصيلية التي اعاقت وما زالت تعيق توحدهم في مواجهة نكبة جديدة.. وهل سينتقلون من الثرثرة الى العمل الايجابي البناء؟ وبصرف النظر عن الجواب تبقى هناك ضرورة وطنية وبحثية ملحة لان يبادر احد مراكز الابحاث المستقلة او كلها، الى عقد ندوة فكرية ـ مائدة مستديرة ـ حول أزمة العمل الوطني، وسبل معالجتها تضم نخبة من البحاثة والاخصائين. ومثل هذا العمل ضروري ايضا للارتقاء مهنيا بدور المراكز ذاتها. وقديما قالوا ايقاد شمعة خير من شتم الظلام الف مرة.