حول الحوار الوطني المطلوب لخروج الفلسطينيين من المأزق
بقلم ممدوح نوفل في 01/11/1997
لا يحتاج المراقب المحلي أو الاجنبي لبذل جهد كبير حتى يرى بوضوح الازمة أو الازمات العميقة المتنوعة التي تمر بها أوضاع الفلسطينيين في هذه الفترة، شعبا وسلطة ومعارضة ومنظمة تحرير. فعملية السلام تحتضر، و م ت ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب باتت شبه منسية. والعلاقة مع الاسرائيليين ليست على ما يرام، وعلاقة السلطة مع المعارضة باردة ومتشنجة ويشوبها الحذر الشديد، وبالفلسطينيين في الداخل والخارج قلقة ومضطربة. والتعقيدات الكبيرة التي طرأت على حياة أبناء الضفة والقطاع في عهد الليكود ظاهرة للجميع، وذات الشيء ينطبق على الاوضاع الاقتصادية. وهناك اجماع فلسطيني شعبي وحزبي ورسمي على أن الازمة تفاقمت أكثر من اي وقت مضى، وازدادت تعقيدا، وزاد ضغطها على الجميع دون استثناء. وبلغت مرحلة خطرة، أصبحت تهدد مصيرالشعب والارض، وبخاصة مدينة القدس وأرض الضفة الغربية ومن عليها. والتباين الحاصل بين البحاثة المحايدين والمحلليين الفلسطينيين، وبين السلطة والمعارضة، لا يمس وجود الازمة وخطورتها، بل يحوم ويدور حول أسبابها وعمق جذورها ومدى اتساع مجالاتها، وحول كيفية منع انفجارها، والخروج منها بأقل الخسائر الممكنة.
وعند تفحص مواقف القوى الفلسطينية من الازمة وسبل الخروج منها نجدها متباينة ومتناقضة في بعض الاحيان. فالمعارضة المنضوية تحت لواء منظمة التحرير تدعو لاستكمال الحوار الوطني الشامل باعتباره الوسيلة الانجع لترتيب البيت الفلسطيني ومعالجة الامراض المتنوعة التي تنخر الجسد الوطني. وتطالب بتجميد المفاوضات والاتفاقات مع الاسرائيليين. ولا تعتبرهما شرطا مسبقا للشروع في الحوار. اما حركة حماس ومعها حركة الجهاد الاسلامي فموقفهما يتقاطع مع مواقف الآخرين بالاقرار بوجود الازمة وبتقدير خطورتها. الا انه يتباين معهم حول سبل الخروج منها. ورغم خروج الشيخ ياسين من سجنه واطلاقه تصريحات ايجابية كثيرة حول السلطة ورئيسها وحول عملية السلام والمفاوضات الا ان موقف حماس ما زال غير واضح بشأن الحوار الوطني، ولم نلمس للآن جديدا حول سبل الخروج منها. اما القوى المشاركة في السلطة فموقفهما غير موحد. بعضها يبسط الازمة ويقارن الاوضاع بما كانت عليه قبل انطلاق عملية السلام. ويستسهل الحلول، ولا يرى اي أمل يرجى من الحوار الوطني الشامل الذي تدعو له المعارضة. ويعتقد بأن الحوار بمفهومه الفصائلي القديم يضيف للمشكلات القائمة مشكلات جديدة، لان الشعب الفلسطيني في غنى عنها وعنده من الهموم والمشاكل ما يكفيه ويزيد عن طاقته. ويرفض عمليا الدخول في بحث جدي عن قواسم مشتركة بين السلطة والمعارضة. ورفضه مؤشرعلى ضعف ترسخ منهج التفكير الديمقراطي. ويتضمن بصيغة وأخرى، رغبة في الاستئثار الكامل بالسلطة، وعدم التقيد بالقيود التي يفرضها العمل الوطني المشترك. ويربط، بصيغة وأخرى، بين دخول الحوار الوطني وبين متطلبات تواصل المفاوضات بما في ذلك مقاطعة اللقاءات مع حماس. وهناك من اهل السلطة من يخشى خسارة بعض الامتيازات الحزبية والفردية المكتسبة من وجوده في السلطة، ومن المشاركة في المفاوضات، ومن العلاقة التي نشأت مع الاسرائيليين. وهناك من يرى في اجراء تعديل أو تغيير وزاري حلا سحريا للمشكلات اذا شمله التعديل. وبعضهم لا يتردد في ترشيح نفسه او دفع بعض المقربين لترشيحه، وهناك بازار مفتوح الان حول هذا الموضوع. وهناك من هو محبط تماما ويعقد الأمور على نفسه وعلى الآخرين، ولا دور له الا اشاعة اجواء اليأس والاحباط، والتبشير بمستقبل فلسطيني قاتم. وبجانب هذا وذاك هناك بداية نزوع متزايد داخل مختلف التنظيمات الفلسطينية نحو تكسير قيود الرقابة الحزبية من حول العديد من القضايا والموضوعات التي كانت تعتبر سابقاً من الممنوعات، وتلك التي كانت تندرج تحت طائلة المحرمات الفكرية والتنظيمية. اما الاغلبية الشعبية المكتوية بنيران الازمة، في الداخل والخارج، غير المنتمية للتنظيمات، فهي فاقدة الثقة بقدرة السلطة، وقوى الحركة الوطنية الحالية المترهلة، يمينها ويسارها، على معالجة الازمة والخروج منها بسلام، وعلى اخراج الوضع الوطني العام لبر الامان. وتجربة جولات الحوار السابقة الفاشلة كرست عندها هذه القناعات. وباتت اكثر تحفزا للدفاع مباشرة عن حقوقها ومصالحها.
صحيح ان التباين والخلاف حول فهم الازمة واسس معالجتها يعتبر ظاهرة صحيحة وصحية، الا ان الصحيح ايضا ان عدم قدرة القوى الوطنية على ايجاد قواسم مشتركة تجمعها لمواجهة تدهور الاوضاع يجعل الجميع، سلطة ومعارضة، اشبه باصحاب البيت الذين تشاجروا حول تحديد من المسؤول عن اشعال الحريق في دارهم، وتأخروا عن اطفاء النار فاحترق بيتهم، وعانوا الامرين، وجميعهم تشردوا في العراء. فالخلافات والتباينات حول تشخيص الازمة وسبل معالجتها، وعدم القدرة على التوصل الى قواسم مشتركة جزء من المأزق الوطني، وسبب في تفاقم المشكلات، وفي تعطيل توجة القوى الوطنية الفلسطينية باتجاه علاجها.
واذا كان لا خلاف على ان السلطة تتحمل مسؤولية رئيسية في ما آلت اليه اوضاع الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، باعتبارها الجهة الممسكة بدفة القيادة وبمقدرات الشعب، فلا تستطيع المعارضة الاسلامية والوطنية المنظمة، اقناع الناس ببراءتها الكاملة. ولن يستطيع المثقفون الوطنيون والديمقراطيون الفلسطينيون، اينما كانوا التنصل، امام محكمة التاريخ من المسؤلية. فصمتهم، وادارة الظهر للشعب، وقت الشدائد تهم ثابتة لا يغفرها التاريخ ولا تمحوها الاعذار التي يسوقوها لتبرير مواقفهم السلبية. ومن المفيد ان يدرك الجميع بأن بقاء الاوضاع الفلسطينية على ما هي عليه الآن يعني سير الجميع نحو كارثة وطنية جديدة. وبعدها لن يكون مفيدا بحث درجات ومستويات المسؤولية عن وقوعها. ويخطئ من يعتقد بان العالم والعرب سيخلصوا الفلسطينيين من ازماتهم اذا هم لم يتحركوا ليخلصوا انفسهم.
اعتقد بان الوقوع في الكارثة ليس قدر لا مفر منه، وبان تداركها ممكن، وشرطة الرئيسي توحيد الجهود والطاقات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها، واستثمار الامكانات الذاتية بصورة صحيحة، وتوظيفها في الاتجات الرئيسية وفقا للاولويات الوطنية. والتعامل مع المفاوضات وحرص العرب والعالم على صنع السلام واستقرار في المنطقة كعناصر مساعدة.
ولا اعرف اذا كانت هناك وسيلة اخرى غير الحوار الديمقراطي، قادرة على تصحيح مسار الحركة الوطنية الفلسطينية واخراجها من المستنقع الذي مازالت تتخبط فيه منذ بضع سنوات.
وفي هذا السياق اعتقد بان الوقت قد حان لاجراء الجميع، سلطة ومعارضة، وفعاليات ومؤسسات وطنية مستقلة، مراجعة ذاتية نقدية جريئة. فالمعارضة مطالبة بمكاشفة جمهورها وكوادرها بفشل برامجها في المساهمة بوقف تدهور الاوضاع الوطنية العامة، وقصور توجهاتها عن استقطاب الشارع الفلسطيني وردم الهوة القائمة بينها وبين الناس. اما السلطة ممثلة بالقيادة الفلسطينية فهي مطالبة بمكاشفة شعبها داخل الوطن وخارجه بالواقع. ومصارحته بحقيقة حالة عملية السلام وعمق الازمة التي تعيشها، وبانسداد آفاقها طيلة حكم الليكود. ومكاشفته بحجم بالمصاعب الكبرى التي تواجهها في عملها اليومي، وضمنها اسغلال البعض لمواقعهم في مؤسسات السلطة. وتغليب، بعض من يتبوؤن مراكز حساسة، مصالحهم الخاصة على المصالح العامة. فالشروع في مثل هذه المراجعات النقدية واطلاق المبادرات ضرور وطنية ملحة اكثر، لمواجهة التطورات الكبيرة والخطيرة المقبلة، والحفاظ على وحدة الشعب في الداخل والخارج. وعلى هيبة السلطة وعلاقتها بالجمهور الفلسطيني. وهي ضرورية ايضا لارساء اسس تحقيق مصالحة بينهما السلطة وكل القوى الوطنية من جهة وبين الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني. ولبناء ارضية مشتركة بين السلطة والمعارضة للبدء في حوار وطني شامل. فالمكاشفة الصريحة الصادقة تساعد على استنهاض طاقات الشعب الفلسطيني وعلى تفعيلها في الصراع ضد الاحتلال. وتوظيفها باتجاه معالجة الازمة او الازمات التي يمر بها الوضع الفلسطيني ووقف تدهورالاوضاع. وتساهم في اخراجه من حالة الاستنكاف واللامبالاة التي يعيشها تجاه ما يجري، خاصة اذا اقترنت بخطوات تصحيحية. واتخذت السلطة اجراءات عملية ملموسة ضد الفساد والتجاوزات وضد كل الذين تثبت ادانتهم مهما كانت مناصبهم ومواقعهم داخل السلطة. وانتهجت سياسة تفاوضية ثابتة.
واذا كان شروع السلطة والمعارضةومعهما الفعاليات والمؤسسات والشخصيات الوطنية المستقلة في حوار وطني هو بداية الصعود الى قادرب النجاة، فالمصلحة الوطنية العليا ومصالح القوى ذاتها تفرض ان يكون حوارها هذه المرة حوارا من نوع جديد. لاسيما وان تجربة لقاءات الحوار الوطني “الشامل” التي تمت للآن لم تكن مشجعة، ولم تحقق الغرض المرجو منها. بل زادت الامور تعقيدا، وبخاصة في مجال العلاقات الوطنية بين السلطة والمعارضة. ولم تغير موقف الشارع الفلسطيني السلبي من الاحزاب والمنظمات الفلسطينية ومن السلطة. وبقي مستنكفا عن مؤازرتها، ومديرا لها ظهرة، ويحملها مسؤولية تدهور الاوضاع الوطنية واوضاعه المعيشية. واذا كان من المستحيل ان يكون الخلل في مبدأ الحوار ذاته، وفي موقف الشعب من السلطة والتنظيمات، فالمسؤولية الوطنية تفرض على كل من شارك في جولات الحوارات السابقة ان يبحث عن السبب او الاسباب الجوهرية التي قادت الى نتائج عكسية. وتفرض على الجميع العمل بصورة جماعية وفي صيغة تكتلات وتجمعات، سبل تجاوز مسببات فشل الحوار. والعمل على بلورة اسس عملية واكثر واقعية قادرة على انجاح اية جولات تعقد لاحقا. وليس من مصلحة للفلسطينيين في اخضاع الحوار الوطني للمساومة في اطار مفاوضات السلام. لاسيما وان الجميع يقر ويعترف بأن نتائج المفاوضات مع الاسرائيليين ومستقبلها في عهد الليكود وبعده لا تملي على اي طرف تغيير قناعاته والاعتراف بخطئ مواقفه السابقة. واعتقد بان تولي هيئة رئاسة المجلس الوطني مهمة تنظيم وادارة الحوار، وابتعاد السلطة عن تصدره في مراحله الاولى، يجرد الاسرائيليين ومن يساند اعتراضهم على دخول السلطة في حوار مع حركة حماس. ويفترض بان تكون مواقف نتنياهو الواضحة في عدوانيتها لعملية السلام وللاتفاقات التي تم التوصل اليها، ومن جهة اخرى تصريحات الشيخ احمد ياسين بعد خروجه من السجن، حول الهدنة، والقبول بالحل المرحلي، وبالمفاوضات كوسيلة لتحقيق هذا الهدف، وبالتعايش مع اليهود..الخ عنصرا مساعدا على عدم خضوع السلطة للابتزاز الخارجي. وعاملا مساعدا على نجاح الحوار الفلسطيني الفلسطيني. فتصريحاته السياسية واقراره بان السطة الوطنية هي سلطة لكل الشعب الفلسطيني، وبانها الجهة الوحيدة المخولة بادارة المفاوضات مع الاسرائيليين ينهي اكثر من قضية كانت اشكالية بين الطرفين، ويسهل عليهما التوصل لحلول للقضايا الاخرى والى قواسم مشتركة للعمل معا في مواجهة الاحتلال. ومنطقية الامور تفترض بمن يقر بالصفة التمثيلية للسلطة ان يستكمل توجهاته على ذات الدرب، ووان يخطو خطوته الثانية والاقرار بصفة المنظمة التمثيلية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وان يبادر ايضا لاحيائها والانخراط في اطرها ومؤسساتها. فالتوقف عند الخطوة الاولى يكرس ازدواجية في الموقف ويبقيه ملتبسا. فهل ستخطو القوى الفلسطينية خطوات واقعية نوعية جديدة اتجاه بعضها البعض؟ وهل ستدخل في حوار وطني ديمقراطي شامل مضمون النتائج يختلف عن الحوار الفاشل الذي عرفناه حتى الآن ؟