معركة تثبيت إتفاق طابا وتنفيذه هي الاصعب والاقسى
بقلم ممدوح نوفل في 09/10/1995
رغم أن اتفاق طابا، أو اوسلو ب، الذي تم توقيعه في البيت الابيض يوم 28 ايلول الماضي، اتفاق مرحلي حول تنفيذ المرحلة الوسطى من اتفاق اوسلو، ورغم انه جاء متأخرا 14 شهرا، الا ان الاحتفال به كان مميزا عن سائر الاحتفالات باتفاقات السلام التي شاهدناها من قبل . فقد شارك فيه حشد كبير من الزعماء والوزراء، وتم تغييب الامم المتحدة عن سابق قصد واصرار. ولم تكتفى الادارة الامريكية بذلك، بل طلبت من العديد من وزراء العالم التوقيع على هذا الاتفاق، وبلغ عدد الموقعين اثني عشر وزيرا ورئيسا وملكا، (رابين، ابوعمار، الرئيس مبارك، الملك حسين، ابو مازن، بيريز، كريستوفر، كوزرييف، رئيس الوزراء الاسباني (غونزالس)، ووزير خارجية النرويج، ووزير الخارجية اليابانية).ومنعت الامم المتحدة من الحضور ومن التوقيع على الاتفاق.
أعتقد أنني لا أتجنى على أحد اذا قلت أن جميع من وقعوه بما في ذلك الفلسطينيون والاسرائيليون لم يقرأوه.. فصفحات الاتفاق تزيد على 400 صفحة، وملحق به خرائط مدن وشوارع بالكاد يعرفها ابناء الضفة الغربية والمستوطنون. لقد أثار توقيع الاثني عشر زعيما اسئلة عديدة، منها: لماذا هذا الحشد من التواقيع على هذا الاتفاق المرحلي الجزئي؟ هل لتعزيز مواقع رابين في مواجهة اليمين الاسرائيلي؟ أم لتعزيز مواقع كلينتون المتدهورة في الانتخابات الامريكية القادمة؟ أم مكافأة دولية لأهل الاتفاق؟ أم أنه بسبب الشكوك في التزام رابين وابو عمار بتنفيذ ما وقعا عليه؟. واذا كان أي من الاطراف التي شاركت في التوقيع لم يفسر لنا هذا السر حتى الآن، فمن باب الاجتهاد يمكن القول أن الدافع لحشد هذا العدد من الموقعين هو مزيج مما تحمله الاسئلة المطروحة، وأن الاهداف الدعاوية طغت على ما عداها.
وجميع الموقعين على الاتفاق يعرفون ان استطلاعات الرأي العام الامريكي حول الانتخابات الامريكية القادمة( نوفمبر1996) تشير الى ان الاحتفال باتفاق طابا قد يكون آخر احتفال يحضره الرئيس كلينتون. ويعرفون ايضا انه آخر اتفاق يحتفل به في عملية السلام من الان وحتى مطلع عام 1997، حتى لو استؤنفت المفاوضات على المسار السوري الاسرائيلي، واللبناني الاسرائيلي خلال اسابيع . فترتيبات أي اتفاق على المسار السوري الاسرائيلي تحتاج الى ادارة امريكية قوية، وقادرة على انتزاع قرار من الكونغرس بارسال قوات ومعدات امريكية الى هضبة الجولان، وتلبية المتطلبات المالية الكبيرة المطلوبة لتمرير مثل هذا الاتفاق، بعضها ستكون مساعدات دائمة لسوريا على غرار المساعدات المالية السنوية التي تقدم لمصر واسرائيل، وبعضها الاخر ثمن للمستوطنات وللتعويض على المستوطنيين.
وواضح من من جهة اخرى ان الاوضاع الاسرائيلية الداخلية، والاوضاع القيادية داخل حزب العمل لا تتحمل هزة ثانية يحدثها أي اتفاق حول الجولان بعد الهزة التي احدثها اتفاق طابا. واتفاق طابا يكفي رابين من الان وحتى انتخابات الكنيست (نوفمبر1996)، وبامكانه استثماره جيدا مع الجمهورالاسرائيلي المعارض والمتحفظ على عملية السلام مع الفلسطينيين، وايضا مع قوى السلام وجمهورها. فبامكانه القول للاتجاه الاول ان الحكم الذاتي الذي اعطاه للفلسطينيين في طابا، اقل من الذي وافق عليه بيغن في اتفاقات كامب ديفيد عام 1978، ومع الاتجاه الاخر بامكانه القول ان اتفاق طابا يؤكد ان عملية السلام مع الفلسطينيين تتقدم، وهي بألف خير..
والتجربه العملية لتعامل الاسرائيليين مع الاتفاقات التي وقعوها حتى الان مع الفلسطينيين تؤكد ان انتهاء معركة صياغة اتفاق طابا ، يعني بدأ معركة تثبيته، وتنفيذه، وتقليص سلبياته، وتطوير ايجابياته. واظنها هي الاصعب والاقسى، وذلك لاعتبارات عديدة اهمها :
1) بينت التجربة ان توصل الاسرائيليين وتوقيعهم على اتفاقات رسمية مع الفلسطينيين شيء، والالتزام بتنفيذها شيء آخر. فبعد اسلو نجح رابين في تثبيت مقولته الشهيرة “لا تواريخ مقدسة مع الفلسطينيين” وفرضها كقاعدة لتنفيذ الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وبعد التوقيع على بروتوكولات القاهرة أضاف عليها “لا نصوص مقدسة في الاتفاقات التي يجري التوصل لها مع الفلسطينيين”. ولعل تعطيل تنفيذ ما ورد في اتفاق اوسلو وبروتوكولات القاهرة 14 شهرا ، بشأن تسليم السلطات المدنية في الضفة الغربية، وعدم توفير الممر الآمن بين غزة واريحا حتى الان، وتأخير الانسحاب من المناطق المأهولة، وتعطيل اجراء الانتخابات الفلسطينية، وعدم اطلاق سراح المعتقلين، والمماطلة في البحث في ترتيبات عودة النازحين.الخ.. شواهد حية ، تفرض على الجانب الفلسطيني عدم الاطمئنان على مصير الاتفاق، وعدم النوم على حرير. وتفرض على الجانب الفلسطينيي رفع يقظته ووضع الخطط الكفيلة بمنع الطرف الاسرائيلي من التلاعب بنصوص الاتفاق الجديد وبتواريخ التنفيذ.
2) أظن انني لا اضيف جديدا اذا قلت ان للمفاوضات والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية اعداء كثرو في صفوف الشعبين، وعلى المستوى الاقليمي لا يستهان بقدراتهم وطاقاتهم. ومن البديهي القول ايضا انه عندما يكون هناك نزاع كبير، يجري العمل على حله ـ من حجم النزاع في منطقة الشرق الاوسط ـ يكون هناك مستفيدون ومتضررون، وكلما اقترب المتنازعون من الحلول اسرع المتضررون نحو التوحد ورص الصفوف والتلاقي لوضع الخطط المشتركة، وتقسيم الادوار والواجبات فيما بينهم لتعطيل الحلول الضارة بمصالحهم. ولعل ما قام به المتطرفون البيض في جنوب افريقيا بعد الاتفاق على انهاء الميز العنصري، وما قام به الجيش الفرنسي السري على أرض الجزائر بعد اتفاقية ايفيان الاولى والثانية، والمجزة البشعة التي ارتكبها المستوطن المجرم غولدشتاين في الحرم الابراهيمي الشريف بعد التوقيع على اتفاق القاهرة (شباط 1994) شواهد على ذلك.
وخلال مفاوضات طابا ظهر في صفوف الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي قوى فاعلة عارضت توصل الطرفين الى اتفاق، ومارس بعضها ضغوطا شديدة على المفاوضين. وبعد التوقيع على الاتفاق صعدت هذه القوى من معارضتها. ففي دمشق التقت القوى الفلسطينية العشرة المعارضة لعملية السلام، وتدارست الامر فيما بينها، واصدرت بيانات جماعية وفردية ادانت الاتفاق، واعلنت عن عزمها على بذل كل جهد ممكن لتعطيل تنفيذه ولاسقاطه. وعلى الجانب الاخر تداعت احزاب اليمين في اسرائيل الى اجتماع، اقسموا فيه الحفاظ على ارض اسرائيل التاريخية، وعلى حق اليهود في استيطان يهودا والسامرا. وقام المستوطنون في الضفة الغربية بحركات احتجاجية تجاوزوا فيها الاعراف والتقاليد الديمقراطية الاسرائيلية، وخرقوا القوانيين الرسمية وكان آخرها عبور بعضهم نهر الاردن. وبغض النظر ما يمكن ان تقوم به القوى الفلسطينية الرافضة لاتفاق طابا، فالواضح ان القوى اليمينية الاسرائيلية عاقدة العزم على تعطيل تنفيذ الاتفاق وانها لن تتوانى في مرحلة التحضير لانتخابات الكنيست عن القيام باعمال تقلص مضار الاتفاق عليها، وتحرج حكومة رابين، وتشل تنفيذ الاتفاق. اعتقد ان ما سيقوم به المعارضون من الطرفين سوف يساعد رابين وحكومته على التلاعب بنصوص الاتفاق والتلاعب بتوقيتاته الزمنية.
3) لا حاجة لان يكون الانسان عبقريا حتى يكتشف ان تنفيذ اتفاق طابا مرهون، من الفه الى يائه، بمدى نجاح السلطة الفلسطينية في الاختبار الامني الجديد، والذي يعني السيطرة على المدن والقرى التي سوف تتسلمها، ومنع تحولها الى مراكز نشاط ضد الاسرائيليين في اسرائيل والضفة الغربية، بما في ذلك امن وسلامة المستوطنيين الذين يعلنون انهم سيعملون بكل السبل على افشال الاتفاق وتعطيل تنفيذه. صحيح ان العمليات التي نفذتها حركتي حماس والجهاد الاسلامي سابقا لم توقف المفاوضات، ولم تعطل التوصل الى اتفاق طابا، لكن الصحيح أيضا أن تلك العمليات كان لها تأثيرها على الزمن، واعطت للجانب الاسرائيلي ذرائع لتأجيل التوصل الى الاتفاق، ولفرض قيودا والتزامات امنية شديدة على الطرف الفلسطيني.
وبغض النظر عن الموقف من موضوع العمليات الخاصة( وهو لاشك بحاجة الى نقاش خاص) فالواضح ان التيار المسيطر في حركتي حماس والجهاد الاسلامي، وبعض الفصائل الفلسطينية الاخرى المعارضة لعملية السلام، ما زالت تعتبر هذا الاسلوب من العمل وسيلة فعالة( ويبدو انه الوحيد في نظرها) للتعبير عن معارضتها لعملية السلام، ولافشال الاتفاقات. وفي سياق الحرص على تثبيت اتفاق طابا وتنفيذه، تخطأ السلطة الفلسطينية ان هي خضعت على هذا الصعيد لابتزازات الجنرال رابين ومؤسسته العسكرية، وان هي وافقت على ربط التنفيذ بالمتطلبات الامنية الاسرائيلية، فمتطلبات أمن الاسرائيليين لها أول، ولكن لا آخر ولا حدود لها.
4) التدقيق بمسار مفاوضات طابا يبين ان المفاوض الفلسطيني خضع لابتزازات رابين وبيريز، وتعرض لضغوطات أمريكية شديدة، الزمته على انتهاج خط تفاوضي يقوم على “عدم التوصل الى الاتفاق على عدد من النقاط، خير من تثبيت عدد من النصوص السيئة” ولهذ تم تاجيل الاتفاق على العديد من النقاط الاساسية، وتوافق الطرفان على بحثها في مفاوضات لاحقة، منها وضعية الحرم الابراهيمي الشريف، والسيطرة على المياه الجوفية في الضفة الغربية، والترتيبات الامنية التفصيلية في المنطقة ب، وقضايا المعتقلين المتهمين بقتل اسرائيليين. ان انتزاع الحقوق الفلسطينية في هذه القضايا الحساسة يتطلب ملاحقتها واصرار على متابعة التفاوض حولها.وتجربة تطبيق بروتوكولات القاهرة اكدت ان الجانب الاسرائيلي يفرض الامر الواقع في التعامل مع كل القضايا المؤجلة، فهذا حصل بشأن مساحة اريحا، ومنطقة المواصي على شاطئ غزة، والممر الآمن بين الضفة الغربية وغزة، والسيطرة على المعابر، ووجود شرطي فلسطيني على جسر اللنبي..الخ..
5) واضح ان اتفاق طابا تم تفصيله على مقاس رابين وقادة حزب العمل في معركة الانتخابات القادمة. لقد قسم رابين الانسحاب من المناطق المأهولة الى ثلاث مراحل، ووقت تنفيذ المرحلة الثالثة وهي الاشد حساسية الى ما بعد الانتهاء من انتخابات الكنيست . وابقى توقيت تنفيذ المرحلة الثانية مفتوحا على كل الاحتمالات بما في ذلك امكانية عدم الالتزام بتنفيذها، اذا كانت ذلك يفيده ويفيد حزبه في المعركه الانتخابية، وقال امام الكنيت “نلتزم بتنفيذ الاتفاق فقط اذا التزم الفلسطينيون بتنفيذ كل بنوده بحذافيرها”. اعتقد ان النص في الاتفاق على ربط التنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق طابا بالغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني سيضعف موقف الجانب الفلسطيني في المعركة التي سوف تخاض بعد ستة شهور حول الموضوع. وان اخضاع اتفاق طابا لتقلبات رياح الانتخابات الاسرائيلية يعني أنه كلما اقترب الاسرائيليون من موعد الانتخابات كلما اضطر رابين الى الابطاء في تنفيذ بنود الاتفاق، والى تحريف بعضها، واعطاء بعضها الاخر تفسيراته الخاصة اذا كان ذلك يساعده كسب بعض الاصوات الانتخابية.
وتخطا القيادة الفلسطينية ان هي اعتقدت ان تنفيذ اتفاق طابا سوف يسير في خط سهل ومستقيم وتخطأ اكثر ان هي اعتقدت ان الحشد الكبير من التواقيع على الاتفاق كفيل بالزام رابين بتنفيذه بدقة وامانة واخلاص. فالاسابيع والشهور القليلة القادمة كفيله باظهار ان من وقع على الاتفاق لن يستطيع الادلاء بشهاداته .