المفاوضات ساحة نضال والقدس على رأس جدول الأعمال
بقلم ممدوح نوفل في 14/06/1993
أمام كل استعصاء طبيعي أو مفتعل تواجهه المفاوضات يكثر الحديث في الساحة الفلسطينية عن الانسحاب والمقاطعة وتعليق المشاركة فيها. والآن وعلى أبواب الجولة العاشرة، ارتفعت وتيرة هذا الحديث واندفع البعض في سياق تبرير موقفه والدفاع عنه للقول “إن استمرار اغلاق القدس.. وشق الطرق وتوسيع الاستيطان يجعل من عملية التفاوض مهزلة.. وتغطية لتكريس الخطوة هذه..”. لا شك أن من حق كل انسان فلسطيني وكل حزب أو فصيل أن يقول رأيه في المفاوضات، وأن يطلق عليها ما يحلو له من نعوت وصفات، وأن يطرح أفكاره بشأنها وفي كل مرحلة من مراحلها، وأن يقدم ما عنده من مقترحات، حتى ولو تضمن موقفه تغييراً وتبديلاً في القناعات دون أن يقدم لذلك أي تفسيرات… واذا كان لا داعي لتكرار عرض مفهوم الاتجاه الواقعي للمشاركة في المفاوضات فأظن أن التذكير ببعضها ضروري ومفيد -بين فترة وأخرى- والاجابة على بعض التساؤلات التي تثيرها بعض المواقف واجب وطني وفيه إغناء للنقاش..
فهل المفاوضات في جولتها الحالية مهزلة؟.. وهل المشاركة فيها (الآن) تغطية لتكريس الواقع الاحتلالي أم أنها وسيلة لتغييره؟؟.. وهل المشاركين في الجولة العاشرة أداة لعملية التغطية؟.. أما المشاركين في الأولى والثانية وحتى الثامنة غير ذلك؟!
أظن أننا لا نأتي بجديد اذا قلنا أن الاتجاه الواقعي تعامل مع المفاوضات منذ بدايتها باعتبارها ساحة من ساحات النضال، وأنها ليست بديلة لأي ساحة أخرى أو أي شكل من أشكال النضال. دخلها ليكرس الحضور السياسي الفلسطيني في معركة يشارك فيها أكثر من أربعين دولة. وليثبت التمثيل الفلسطيني المستقل وليفضح جرائم الاحتلال الجديدة منها أو القديمة بما في ذلك الاستيطان وضم القدس.. وشق الطرق.. وكل مخالفاته وانتهاكاته للاتفاقات الدولية وقضايا حقوق الانسان. ودخلها باعتبارها وسيلة لعرض أهداف الانتفاضة وقضاياها اليومية، وللتخاطب مع الرأي العام العالمي وتوسيع جبهة الأصدقاء وتضييق جبهة الأعداء وتحييد ما يمكن تحييده منهم. دخلها وهو يعرف أن أسسها ناقصة ولكنه مصمم على التمسك بالثوابت الوطنية، والنضال لاحداث ما يمكن إحداثه من تغييرات في قواعدها وأسسها.
وأعتقد أن استمرار المفاوضات كل هذه الشهور الطويلة دون التوصل الى أية اتفاقات شهادة للمفاوض الفلسطيني بأنه بقي متمسكاً بالثوابت الوطنية ولم يقدم تنازلات. وأظن أن ليس بإمكان حتى المعارضين من حيث المبدأ لعملية السلام وللمفاوضات تسجيل تنازل واحد قدمه الوفد الفلسطيني إزاء القضية أو ألحق الضرر بالأهداف الوطنية الكبرى. وأعتقد أن من غير الانصاف وغير الواقعي وغير المنطقي وصف المفاوضات بالمهزلة.. فالنضال السياسي ضد الاحتلال ليس مهزلة.. والصراع مع العدو أمام الرأي العام العالمي ليس مهزلة.. وحرق أعصاب المفاوض الفلسطيني واجتهاده في الدفاع عن قضايا شعبه وتعريف العالم بعواقبها وفضح جرائم الاحتلال من الاجحاف اعتباره مهزلة.. أما القول أن الاستمرار فيها “تغطية لتكريس الواقع الاحتلالي القائم..”!! فأظنه قولاً ظالماً وفيه الكثير من التسرع والانفعال..! ومن حقنا أن نسأل هل المشاركة في الأولى وحتى الثامنة مشاركة في مهزلة.. وهل كانت نضالاً ضد الاحتلال أم مشاركة في التغطية عليه…؟! لا سيما وأن الكل يعرف أن الاحتلال موجود قبل الجولة الثامنة وشق الطرق وبناء المستوطنات كان قائماً قبل بدء المفاوضات وقبل كل الجولات، وأن القدس مضمومة منذ أواخر حزيران 67.. ولا أظن أن الانسحاب أو تعليق المشاركة في العاشرة سيوقف أي من هذه الممارسات وهو بالتأكيد لن يعيد القدس.. بل إنه قد يساهم في تسريع كل الخطوات التي تقود الى تكريس الاحتلال، وقد يساهم في التعتيم والتغطية على كل الوقائع الجديدة التي يحاول ويعمل على بنائها كل يوم. والدعوة لغياب الوفد الفلسطيني عن الجولة العاشرة هو من وجهة نظرنا دعوة لتغيب محامي الدفاع عن حضور جلسة أساسية من جلسات الدفاع عن القضية. ويعرف الجميع أن الغياب الآن سيتحول الى قضية عربية ودولية ويصبح هو القضية وتضيع القضية الأساسية..! ناهيك عن الصراعات الرئيسية أو الثانوية التي ستفرض على أصحاب القضية. وهذه الصراعات لن تكون هذه المرة مع الأعداء ومن يساندهم وإنما مع الأشقاء قبل الأصدقاء.. ولا أعرف كيف يمكن التوفيق بين دعوات “البعض” لخلق التضامن العربي.. والحرص على توحيد الموقف التفاوضي العربي.. وبين دعوة الوفد الفلسطيني -وحده- دون دعوة العرب الآخرين للانسحاب..
أما المطالبة “بأن تكون القدس النقطة الوحيدة على جدول الأعمال” فأظن أن أصحابها يعرفون أكثر من سواهم أن الوفد الفلسطيني المفاوض ومن يوجهه لم ولا يتصرفون باعتبار أن لبيت المقدس رب يحميه.. بل إنهم جعلوا قضيته قضية القضايا.. ويعرفون أن قضية القدس أرضاً وسكاناً ومقدسات كانت ولا زالت عقبة كبرى أمام تقدم المفاوضات ويعرفون أن وضع القدس خلال الفترة الانتقالية موضوعاً رئيسياً من مواضيع المفاوضات وأن مسألة مشاركة أهل القدس في بناء وتأسيس السلطة الانتقالية مسألة أساسية تمسك بها وأصر عليها المفاوض الفلسطيني في كل جولة من جولات المفاوضات. ولا نذيع سراً اذا قلنا أن الوفد الفلسطيني سيواصل الاصرار في الجولة العاشرة على أن تكون القدس مشمولة في نطاق سلطة الحكم الفلسطيني الانتقالي، وأن الوفد التمهيدي الذي ترأسه الدكتور حيدر ذهب ليستطلع الجديد في الموقف الأمريكي والاسرائيلي وليثير قضية عزل القدس، وقضايا مصادرة الأرض.. وشق الطرق والتوسع في الاستيطان.. وقضية المبعدين وعمليات القتل والاعتقال وكل الاجراءات التي يمارسها الاحتلال. وأن هذه القضايا وخاصة إغلاق القدس ستكون في صلب خطة المفاوض الفلسطيني في الجولة العاشرة.. وأظن أن ليس من الحكمة في شيء أن لا يثير المفاوض الفلسطيني مسألة مصادرة الأرض، وقضية المبعدين، وهدم المنازل وقتل الأطفال..الخ الى جانب مسألة عزل القدس عن بقية المناطق.
وأخيراً لعل من المفيد التذكير بأن الديمقراطية تفرض احترام الرأي والرأي الآخر.. وأن المصلحة الوطنية العليا تفرض على الجميع أخذ رأي الشعب، وأن واجب كل الواقعيين بذل كل جهد مستطاع لتوحيد صفوفه في مواجهة الاحتلال وتجميع قواه وتركيزها باتجاه أهداف واقعية.. وليس طرح مواقف ورفع شعارات مربكة، وغير موحدة خاصة اذا تضمنت اتهامات..!!