تقديم ضمانات القروض نسف لأسس عملية السلام

بقلم ممدوح نوفل في 10/02/1992

في أول جلسة للمسار الفلسطيني الاسرائيلي التي انعقدت في واشنطن يوم 13/1/92 بادر الدكتور حيدر عبد الشافي بتسليم روبنشتاين رئيس الوفد الاسرائيلي مذكرة حول الاستيطان. وفي أول لقاء عقده الوزير بيكر في القدس قبل تسع شهور تقريبا مع وفد شخصيات الداخل، بادر الأخ فيصل الحسيني ومن معه الى طرح موضوع الاستيطان في مقدمة المواضيع التي بحثت وقتها.

وما ورد في مذكرة الوفد لا يختلف عن ما قاله فيصل الحسيني قبل ما يزيد على ثمانية أشهر. فالجانب الفلسطيني لم يخف موقفه القائم على أن الاستيطان غير شرعي ويتعارض مع اتفاقيات جنيف الرابعة ومع سائر قرارات الشرعية، ويتناقض مع مبدأ الارض مقابل السلام ومبدأ عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. ومنذ اللقاء الاول مع الوزير بيكر كان المفاوض الفلسطيني جادا وواضحا في قوله بأنه لا يستطيع الدخول في عملية هدفها البحث عن سلام عادل وشامل لقضايا المنطقة قبل وقف الاستيطان. وقوله ان وقف الاستيطان شرط ضروري لاستمرار ونجاح أية عملية سلام.

واذا كانت القيادة الفلسطينية قبلت الدخول الى مؤتمر السلام وتنازلت في حينها عن مطلبها هذا، فالوزير بيكر يعرف حق المعرفة، أنه موقف مؤقت هدفه تسهيل الأمور واظهار صدق النوايا الفلسطينية وجديتها في التحرك نحو السلام. وانه اتخذ في حينها بعدما أكد الوزير بيكر لمفاوضيه من الفلسطينيين بان الادارة الامريكية مع وقف الاستيطان وتعتبره عملا غير شرعيا، وعقبة في طريق السلام. ولم ينس الوفد الفلسطيني ولا القيادة الفلسطينية قول الوزير بيكر “أدخلوا مؤتمر السلام لنوقف الاستيطان”. وفي حينها لم يكتفي المفاوض الفلسطيني بوعود الوزير بيكر الشفوية، وطلبها خطية. وفعلا جرى تثبيتها بصيغة أو بأخرى، في أكثر من فقرة في رسالة التطمينات التي قدمها الوزير للجانب الفلسطيني.

ورسالة التطمينات عرفت نفسها بنفسها حيث نصت “هذه التطمينات تمثل فهم ونوايا الولايات المتحدة حيال المؤتمر والمفاوضات الناجمة عنه”(ر.تط/فقرة2).

ونعتقد ان هذا النص كاف لتبيان الموقف الامريكي من النصوص المتعلقة بموضوع الاستيطان، كما وردت في العديد من فقرات الرسالة، حيث نصت “ان الولايات المتحدة ما انفكت تعتقد منذ زمن طويل انه لا ينبغي لأي طرف ان يقوم بأفعال من جانب واحد بهدف البت المسبق في قضايا لا يمكن ان تحل الا من خلال المفاوضات، وفي هذا الصدد عارضت الولايات المتحدة وستواصل معارضتها للنشاط الاستيطاني في الاراضي المحتلة عام 1967″(ر.تط/فقرة 16). ونصت الفقرة 18 على أن “لا أحد يمكنه املاء النتيجة مسبقا”.

وعند الحديث عن القدس ثبت الوزير بيكر في تطميناته الخطية فقرة تقول “لا نعترف بضم اسرائيل للقدس الشرقية او توسيع حدودها البلدية ونشجع كل الاطراف على تجنب الاجراءات من جانب واحد والتي قد تزيد من حدة التوتر المحلي او تصعب المفاوض او تستبق تقرير نتائجها النهائية”(ر.تط/فقرة 14). وعند الحديث عن حقوق الانسان نصت التطمينات الامريكية على “ستعمل الولايات المتحدة جاهدة منذ البداية وستشجع كل الاطراف على اتخاذ خطوات قادرة على خلق جو من الثقة والثقة المتبادلة بما في ذلك احترام حقوق الانسان”(ر.تط/ فقرة 16).

بعد هذه النصوص التي لا لبس فيها، نعتقد اننا في غنى عن الاستشهاد بأقوال وتطمينات بيكر الشفوية وهي الاكثر وضوحا والاكثر حزما كما وردت في محاضر المحادثات الثنائية في الجولات التي سبقت تقديمه لرسالة التطمينات وسبقت اعمال مؤتمر مدريد، وهي جميعها محفوظة في الارشيف الخاص للقيادة الفلسطينية. وانطلاقا من ذلك كله نستطيع القول ان اية مطالعة للنصوص المذكورة اعلاه بصورة موضوعية وحتى محايدة، واي تدقيق في الالتزامات الواردة فيها وربطها بمسألة تقديم ضمانات القروض قبل وقف الاستيطان توصل ولا شك الى الاستنتاجات الاساسية التالية:

أولا : ان الادارة الامريكية بتقديمها ضمانات القروض لاسرائيل في هذا الوقت بالذات وقبل وقف الاستيطان تتراجع بوعي عن تعهداتها والتزاماتها التي قدمتها للجانب الفلسطيني في وثيقة رسمية، وتساعد احد الاطراف على املاء النتيجة مسبقا، وتسجعه على القيام بأفعال من جانب واحد بهدف البت مسبقا في قضايا يجب حلها في المفاوضات. وهي تعني بوضوح تخلي الادارة الامريكية عن مواصلة معارضتها للاستيطان، وتشجيعها لاسرائيل على مواصلة انتهاك حقوق الانسان الفلسطيني وفي مصادرة ارضه واقامة المستوطنات عليها ومصادرة بيته (كما يحصل في سلوان) لحساب غاصب محتل. وهذا كله يصعب ويعقد المفاوضات ويزيد من حدة التوتر المحلي ..الخ من المسائل التي تتعارض كليا مع ما ورد في رسالة التطمينات وأهداف مؤتمر السلام.

ثانيا : ان تقديم عشرة مليارات دولار قبل وقف الاستيطان وعلى مدى خمس سنوات، لأحد أطراف المفاوضات هو تعزيز وتقوية للموقف التفاوضي لهذا الطرف على حساب الموقف التفاوضي للطرف الآخر. وهذا يفقد الادارة الامريكية دورها (حتى) كوسيط أمين يرعى المفاوضات. فهي تكافيء روبنشتاين وشامير وشارون وتشجعهم على المضي قدما في كل سياساتهم المعادية للسلام. فالوسيط الأمين ملزم بالايفاء بالتزاماته مع كل الاطراف، ويفقد أمانته وقدرته على لعب دور الوسيط ان هو انحاز لصالح احد الاطراف.

ثالثا : تقديم ضمانات القروض يتعارض وفقا للمفهوم الامريكي (وليس العربي) مع الاسس والقواعد التي قامت عليها عملية السلام. فالعملية قامت وفقا لوجهة النظر الامريكية على أساس قرارات الشرعية الدولية وخاصة قرار 242 ومبدأ الارض مقابل السلام ومبدأ عدم جواز الاستيلاء على اراضي الغير بالقوة. وهي تتناقض مع الاستيطان.

رابعا: ان الادارة الامريكية بتقديمها ضمانات القروض دون ربطها بوقف الاستيطان تنحاز لصالح القوى الاكثر تطرفا في اسرائيل والمعادية للسلام (الليكود). فالكل يعرف ان حزب العمل وقوى السلام في اسرائيل تنادي بوقف الاستيطان، وتطالب الادارة الامريكية عدم تقديم ضمانات القروض لشامير الا بعد اقراره بوقف الاستيطان. واذا كان من حق الفلسطيني وواجبه أن لا يكون موقفه أدنى من موقف حزب العمل، فمن غير المقبول ولا المعقول أن يكون موقف الادارة الامريكية، الملتزمة بانجاح عملية السلام، “ليكوديا اسرائيليا” أكثر من نصف الاسرائيليين.

خامسا : ان ما يجري تداوله من حلول (وسط) يثبت جوهر موقف الادارة الامريكية كموقف منحاز ومتعارض مع رسالة التطمينات ومع دورها كراعية لمؤتمر السلام. فلا يغير من الامر شيئا السماح لاسرائيل باستكمال بناء 9000 وحدة سكنية قيد الانشاء، وحسم قيمة ما ينفق عليها من مبلغ الضمانات، فالمسألة تتعلق بمبدأ الاستيطان وليس شكله او حجمه. وتقديم ضمانات القروض في اطار هذا الاقتراح هو تأكيد لحق اسرائيل من حيث المبدأ في الاستيطان، ويثبت شرعية القائم منه حتى الآن.

ولعل من المفيد القول أن الجانب الفلسطيني والعربي اعتبر التأجيل الأول لدفع ضمانات القروض مؤشرا ايجابيا على جدية الادارة الامريكية في رعاية عملية السلام، ودفعها نحو الوصول الى حلول عادلة ودائمة. أما الان فهو يتساءل، هل تراجعت الادارة الامريكية عن جديتها وتراخت عزيمتها لاعتبارات انتخابية، ام انها تخلت عن حياديتها وانحازت لجانب اسرائيل لذات الاعتبارات، وهي ذاتها التي شلت قدرة ادارات سابقة على فرض حلول عادلة لقضايا المنطقة. وفي هذا السياق لعل من المفيد القول أيضا بأنه يخطيء كل من يعتقد أن بامكانه ايجاد فلسطينيا واحدا يقبل مواصلة المفاوضات في الوقت الذي يتواصل فيه سلب الاراضي والبيوت، وتقام وتتوسع المستوطنات. وهذا الموقف قالته القيادة الفلسطينية وقاله رئيس واعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض، ويخطيء كل من لا يتعامل مع هذه الاقوال بمنتهى الجدية والمسؤولية.

وحتى لا يفاجأ أي من الاخوة العرب غير المشاركين في مؤتمر السلام، او المشاركين في الثنائي او المتعدد الاطراف، وجهت القيادة الفلسطينية لهم رسائل تحمل هذا المضمون، كما وجهت أيضا رسائل مماثلة لكل دول العالم المشاركة في عملية السلام والمعنية بنجاحها أيضا. وفي رسائلها ناشدت قيادة م.ت.ف الدول العربية دعم الموقف الفلسطيني وتوحيد الموقف التفاوضي العربي حوله، وقيام الدول العربية، كل حسب طاقته، بدور مع الادارة الامريكية لثنيها عن تقديم ضمانات القروض لاسرائيل، أو ربطها كحد أدنى بوقف كل أشكال الاستيطان (الافقية والعمودية)، وحماية حقوق الانسان الفلسطيني.

وفي رسائلها أكدت القيادة الفلسطينية حرصها على تواصل المفاوضات ونجاح عملية السلام، محملة من يصر على مواصلة الاستيطان وكل من يدعمه كامل المسؤولية عن اي تجميد او تعطيل او نسف لمؤتمر السلام.

فهل سيدعم العرب هذا الموقف العادل للقيادة الفلسطينية ؟ أم أنهم سيقفوا يوما ليتهموها بالتطرف ويحملوها مسؤولية تخريب عملية السلام لأنها أصرت على وقف الاستيطان وطالبت الادارة الامريكية الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها الواردة في رسالة التطمينات ؟.

هذا ما ستكشفه الايام والاسابيع القليلة القادمة، وسننتظر، مكررين القول من باب التذكير أن حزب العمل بقيادة رابين وبيريز قد أقر في مؤتمره الأخير تبني موقفا علنيا يقول بتجميد الاستيطان لمدة عام. ونظن أن المصلحة العربية العليا وحق الفلسطينيين على العرب أن لا يكون موقفهم أدنى من موقف حزب العمل الاسرائيلي.