قراءة للمؤتمرات الشعبية في قطاع غزة= الأولوية لتحصين البيت الفلسطيني
بقلم ممدوح نوفل في 06/06/1992
2)
ثالثا- المؤتمرات انتفاضة ضد السلبيات وضد الاخطاء الذاتية
من خلال التدقيق في مضمون الكلمات التي القيت، وفي الاتجاه الذي راحت نحوه أسهم النقد التي أطلقتها المؤتمرات، يظهر لنا أن النقد ليس موجها من طرف معين، ضد فصيل محدد، أو ضد حركة او قوة معينة. انما هو صادر عن الشعب، وضد ظواهر سلبية ومسلكيات خاطئة ملموسة وقع فيها ويمارسها افراد ومجموعات صغيرة. معظهمهم ينتمون لهذا الفصيل او ذاك، والبعض الاخر يعمل في اطار الحركة الوطنية دون انتماء تنظيمي محدد. والمؤتمرات فيها عدوة علنية ومباشرة لكل الفصائل وكل القوى والاتجاهات الوطنية دون استثناء لتتحمل مسؤولياتها الوطنية، والشروع فورا في تحصين وترتيب اوضاع البيت الفلسطيني. وأولى الخطوات المطلوبة كما حددتها قرارات المؤتمرات، هي ان تسيطر الفصائل على اوضاعها الذاتية، وتوقف فلتان بعض مجموعاتها وافرادها، وان تنظم علاقاتها مع بعضها البعض وان تضع اسس وقواعد قادرة على توفير الحماية والامن للناس، وتضع حدا لكل التجاوزات والتعديات على الحريات العامة والشخصية، وعلى الممتلكات الخاصة.
وقرارات المؤتمرات صرخة قوية من الاعماق الوطنية الملتزمة، تشجب بوضوح ظواهر الاعدامات والاعتقالات والتحقيقات الكيفية بغض النظر عن اسبابها ودوافعها ومن يقوم بها. وهي دعوة لمن يمارس الاعدامات الكيفية للعملاء ان يسألوا انفسهم هل كل الذين اعدموا عملاء يستحقون عقوبة الاعدام ولا عقوبة غيرها او دونها؟ وهل اذا فتح القضاء الفلسطيني ملفاتهم بعد قيام الدولة المستقلة سيصادق على احكام الاعدام التي اصدرتموها بحقهم، أم ان العدل الفلسطيني الشرعي سوف يعيد الاعتبار للبعض منهم؟.
لا شك ان صرخة المؤتمرات تمس ايضا التلثم في وجه الجماهير، وطغيان العسكرة على نشاطات الانتفاضة وحرب الشعارات الجدارية، وصراع الفصائل وتنافسها على السلطة في الشارع وهيمنتها على مؤسسات الانتفاضة والمؤسسات الوطنية الاخرى. وصرخات الشعب ضد التجاوزات لا تنطلق من فراغ، بل من ادراكه وتلمسه ان هذه الممارسات الخاطئة لا تنغص له حياته اليومية فقط، بل باتت تمس وتهدم في التراث والنسيج الاجتماعي الذي راكمه وبناه على مدى اجيال كاملة. وأصبحت تشكل خطرا حقيقيا على مسار الانتفاضة وتذكره ببعض الممارسات الخاطئة، والصراعات الداخلية والتجاوزات التي وقعت بها ثورة ال36، والتي ساهمت بنسبة او اخرى في اجهاض تلك الثورة وعدم جني ثمارها.
ولعل من الضروري ان تتمعن الفصائل في ابعاد اختتام المؤتمرات بتوصيات محددة، وفي مدلولات تشكيلها لجان خاصة لمتابعة هذه التوصيات. فهذه الخطوات تعبر عن تصميم الشعب على عدم السماح لاحد بان يكرر اخطاء ثورة 36 ، أو ان يصادر حقه الديمقراطي في اختيار من يثق بهم ويعهد لهم تنفيذ توجهاته والتي يرى انها تخدم الوطن والصالح العام. لا شك ان كل قراءة مجردة للمؤتمرات وتوصياتها تبين انها انتفاضة الانتفاضة على السلبيات وضد الاخطاء والتجاوزات. وأنها نفض للجسم بصورة صحية لازالة ما علق به من درائن وتشويهات. وكل من يخاف منها، ولا يتفاعل معها قد يجد نفسه في وادي مقفر بعيدا عن الوادي الذي تسير فيه الانتفاضة.
رابعا – المؤتمرات خدمة للقيادة الوطنية الموحدة
من الواضح أن تزامن انعقاد المؤتمرات في قطاع غزة مع انعقاد أعمال الدورة الاخيرة للمجلس المركزي الفلسطيني لم يقع بمحض الصدفة. وتصاعد وتيرتها ونبرتها النقدية بعد صدور قرارات المجلس امر له دلالات وطنية مهمة. صحيح ان المؤتمرات لم تعقد بناء على دعوة مباشرة من القيادة الوطنية الموحدة، لكن الصحيح ايضا انها جاءت بعد مناقشات معمقة جرت على اعلى المستويات القيادية الفلسطينية وشارك فيها ممثلوا كل فصائل م.ت.ف وعدد كبير من الشخصيات الوطنية في الضفة والقطاع. بحثت الاوضاع الفلسطينية بصورة عامة، ووضع الانتفاضة والوحدة الوطنية بصورة خاصة وتم التوقف مطولا امام كل الظواهر المرضية وكل التجاوزات. وتوصلت المناقشات في حينها الى توجهات عمل موحدة، كانت بمثابة الاساس المشترك للمناقشات الغنية التي جرت في المجلس المركزي وللقرارات الهامة التي صدرت عنه، كان أبرزها كما هو معروف القرار بتوحيد الجهود وتركيزها باتجاه التغلب على السلبيات وتكليف اللجنة التنفيذية بالعمل على صياغة وثيقة شرف تكون موضع اجماع فلسطيني، تنظم العلاقة بين القوى الوطنية كافة، وتضع حدا لكل أنواع التجاوزات والسلبيات الناتجة عن الهيمنة الفصائلية والصراعات الفئوية. ولعل رسالة اللجنة العليا لشؤون الوطن التي صيغت بناء على توجهات المجلس المركزي ووقعها الاخ ابو عمار رئيس دولة فلسطين والتي تليت في بعض المؤتمرات، ساهمت هي الاخرى في توفير الغطاء الفلسطيني الشرعي واعطت للؤتمرات بعدها التنظيمي على الصعيد الوطني العام.
وكم كانت أمنية الوطنيين الفلسطينيين ان تتم هذه المؤتمرات بناء على بيان من القيادة الوطنية الموحدة، يكون بمثابة نقطة انطلاق لمراجعة ذاتية جريئة وصريحة، وبداية مرحلة جديدة من علمها وأدائها القيادي. لكن الامنيات شيء وواقع الحال شيء آخر. فانعقاد المؤتمرات بمعزل عن قاوم يعبر عن تراجع دورها ويكشف عن الحالة الراهنة التي تعيشها، ويعكس حجم الهوة الموجودة بينها وبين جمهورها. لا شك ان المؤتمرات الوطنية هي بمثابة الاختبار العملي الاول لمدى التزام الفصائل بالتوجهات الوحدوية والتصحيحية للمسار الذي اتفقت عليه في اجتماعات المجل المركزي وما سبق وتلاه من اجتماعات، وهي في الوقت ذاته امتحان حاسم للقيادة الوطنية الموحدة، ولقدرتها على تجديد دورها واساليب عملها، وتجاوز حالة الانعزال وبطء التفاعل مع الاحداث والروتين والسكون والملل التي تعيشها. واختبار لمدى قدرتها ايضا على مواكبة حركة الشارع الفلسطيني وردم التفاون الحاصل معه، والنهوض بالمهام التنظيمية والكفاحية وفقا للاولويات التي تضمنتها توجهات المجلس المركزي، وتوجهات الرسالة الاخيرة للجنة العليا لشؤون الوطن وايضا قرارات وتوصيات كل المؤتمرات التي انعقدت حتى الان في القطاع. ولا مبالغة في القول ان انعقاد المؤتمرات وفر للقيادة الوطنية الموحدة الفرصة التاريخية واللحظة المناسبة لاحداث قفزة نوعية في تركيبتها، واستكمال بناء هياكلها واطرها ولجانها القيادية والقاعدية في الالوية والمحافظات، واعادة بناء ما تهدم منها على اسس ديمقراطية حقيقية. وهي فرصة تاريخية ولحظة مناسبة كي تستعيد قاوم مكانتها الاعتبارية عند الناس. وتعيد امساكها بزمام الامور، والانتقال الى اخذ دورها الطليعي والمبادر، والمواكبة لحركة الشارع، والمتجاوب مع تطلعاته في اعادة ترتيب البيت الفلسطيني وتحصين القلق الفلسطيني من داخلها، تمهيدا لنقلة نوعية في مواجهة الاحتلال. ولعل اولى الخطوات في هذا الاتجاه تبدأ بموقف عملي من القيادة الوطنية الموحدة يدعو الى الالتزام بكل قرارات المؤتمرات بما في ذلك الالتزام بقرارات لجان الاصلاح التي انبثقت عنها والعمل على تعميم صيغة مؤتمرات غزة في كل انحاء الوطن، وتتويجها بمؤتمر وطني يضم بالاساس ممثلين عن لجان الاصلاح والمؤسسات والهيئات الوطنية الاخرى، يعلن وثيقة الشرف الوطنية، ويؤكد التزام الجميع بها فصائل وحركات واحزاب ومؤسسات وشخصيات وطنية وان يرافق ذلك خطوات جريئة باتجاه تشكيل لجنة وطنية عليا لمتابعة وحماية وثيقة الشرف، وتوفير الاداة الضرورية لتنفيذ كل قرارتها وقرارات اللجان التي تكون قد انبثقت عن المؤتمرات في القرى والمدن والمخيمات والالوية والمحافظات. ان انتهاء احتكار الفصائل الاربعة للدور القيادي في اطار القيادة الوطنية الموحدة يسهم ولا شك في انهاء ظواهر الهيمنة الفصائلية والصراعات والتنافسات الفئوية المشكو منها، وينهي كل افرازاتها السلبية، ويسهم في دمقرطة العلاقات الوطنية وفي توسيع القوى المشاركة في رسم التوجهات النضالية للانتفاضة. ولعل الاسراع في تشكيل مجلس موسع (مجلس القيادة الوطنية الموحدة) للقيادة الوطنية الموحدة، يتولى مهام التخطيط الدوري لتوجهات الانتفاضة والقيادة الموحدة يساعد على التغلب على الهيمنة والفئوية الفصائلية ويقرب برامج وخطط العمل من قضايا الناس، ويوفر اداة رقابة على عمل القيادة الموحدة ويساعدها في معالجة المشكلات التي يشكو منها ابناء الانتفاضة.
خامسا – بالاعتماد على الشعب يمكن التغلب على الصعوبات
بالتدقيق في المهام والتوصيات والتوجهات التي اقرتها المؤتمرات الشعبية، وتلك الواردة في رسالة اللجنة العليا لشؤون الوطن، وفي قرارات وتوجهات المجلس المركزي الفلسطيني، وما قد يضاف لها ويشتق منها جميعها يظهر بوضوح انها كبيرة وكثيرة من حيث عددها وانواعها، ولا أظن ان بامكان الفصائل النهوض بها بالاعتماد على طاقاتها الذاتية مهما كان حجمها ونوعها. ولربما من الضروري التأكيد أن الطريق ليست معبدة أمام هذه المهام. فالعدو الاسرائيلي سيبذل أقصى جهوده لاحباطها، ولعل فرض الحصار ومنع التجول الشامل ولفترة طويلة على قطاع غزة بعد انعقاد عدد من المؤتمرات خير دليل على ذلك. ولا يجوز تقليل مخاطر اتخاذ بعض المجموعات والعديد من الكوادر والعناصر الوطنية المخلصة مواقف رافضة ومعارضة وحتى متصادمة مع بعض هذه التوجهات لاسباب متباينة، بعضه ذاتي وبعضه الاخر له علاقة بالثقافة والتربية الحزبية التي تشربها على مدى عمره في الفصيل الذي ينتمي له. وقد تكتشف الفصائل انها بحاجة الى من يساعدها على ذاتها، فتجديد الذات، والتخلص من بعض التقاليد والعادات، والتحرر من المفاهيم السائدة وخاصة السلطوية منها، لا يتوقف فقط على الرغبات والنيات، وقديما قالوا (من لديه عادة صعب يغيرها، والطبع غلب التطبع).
ولعل الدرس الرئيسي المستخلص من تجربة العامين الاخيرين، ومن المؤتمرات الشعبية التي انعقدت مؤخرا ومن كل تجربة الانتفاضة، ان ليس بامكان الطليعة ان تنوب عن الشعب. وان لا غنى للفصائل والاحزاب والحركات عن كل قوى الشعب. سواء كان ذلك لانجاز المهمات او لحماية الذات وتجاوز الصعوبات. فبالاعتماد على الشعب يمكن التغلب على الذات وعلى كل الصعوبات. تونس