عشرة وصايا للوفد الفلسطيني في مفاوضات واشنطن
بقلم ممدوح نوفل في 25/08/1992
في الرابع والعشرين من آب الجاري توجه الوفد الفلسطيني الى مفاوضات السلام في واشنطن. وبغض النظر عن “النكرزات” الكبيرة او الصغيرة التي واجهت الوفد قبل سفره، وبعيدا عن الغوص في تحليل “الازمة” التي برزت في العلاقة الفلسطينية الامريكية بسبب موافقة ادارة الرئيس بوش (المتوقعة) على اعطاء ضمانات القروض لحكومة رابين، فالمؤكد أن هذه الجولة تختلف نوعيا عن سابقاتها، فمصالح كل الاطراف الاقليمية والدولية المشاركة فيها تدفع باتجاه مناقشة القضايا الجوهرية ومحاولة الوصول الى نتائج عملية ملموسة ومحددة (اتفاقات ما).
ولا نذيع سرا اذا قلنا، ان الوفد الفلسطيني توجه لهذه الجولة وهو مسلح بخطط وسيناريوهات تمكنه من مواجهة كل الاحتمالات. فقبل سفرهم واصل اعضاء الوفد الليل والنهار وحضروا كل الملفات والوثائق اللازمة، وعقدوا سلسلة اجتماعات مطولة مع قيادة م.ت.ف خرجوا منها بتصور متكامل لما يجب فعله وما يمكن القبول به وايضا ما لا يمكن الموافقة عليه.
وكل المطلعين والمتابعين لمسيرة المفاوضات في جولاتها السابقة، والقريبين من عمل الوفد ونشاطه يجلون ويقدرون الجهود الكبيرة والمضنية التي بذلها ويبذلها كل عضو فيه، من اصغر عضو اداري الى أعلى موقع قيادي، من اجل النجاح في المهمة الشاقة والمعقدة المكلف بها، ومن أجل تمثيل شعبه خير تمثيل. وجميع أبناء الشعب الفلسطيني معارضين ومؤيدين لمؤتمر السلام مقتنعين بأن الوفد الفلسطيني كهيئة وكأفراد لا يحتاجوا الى توصيات. فالحريص يرسل ولا يوصى. والفطن يوفد ولا ينبه، والامين يعطي الامانة ولا يسأل عنها.
ورغم القناعة بهذا كله ندرج الوصايا العشر التالية علها تساعد على التذكير:
الوصية الأولى : يعرف الوفد ان المفاوضات مع الاعداء تقوم على مبدأ المساومة وتقديم التنازلات المتبادلة. وفي هذا السياق لعل من المفيد تذكير الوفد الاسرائيلي بأن الشعب الفلسطيني وقيادته قد قدموا الكثير من التضحيات قبل الوصول الى طاولة المفاوضات، بداء من الاقرار بحق اسرائيل في الوجود فوق قسم من الارض الفلسطينية مرورا بقبول تجزئة الحل وتقسيمه الى مراحل وانتهاء بصيغة التمثيل. وتذكيره بأنه مطالب بتقديم ما يوازي ذلك اثباتا لحسن النوايا، وتأكيدا للرغبة في السلام الحقيقي العادل والشامل.
الوصية الثانية : لعل من الضروري أن يبادر الوفد الفلسطيني الى تذكير المفاوض الاسرائيلي بأن صنع سلام حقيقي، عادل ودائم وشامل، يبدأ بتصفية الماضي ومآسيه، وان ذلك يتم باعتراف اسرائيل بمسؤوليتها عن الظلم التاريخي والجرائم الفظيعة التي ارتكبتها القيادة الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى الان. وافهامه بأن المطالبة بمثل هذا الاعتراف يأتي في سياق الرغبة في ارساء الاسس الضرورية لخلق تعايش دائم بين الشعبين.
الوصية الثالثة : يدرك الوفد الفلسطيني ان المفاوضات ستدوم شهور وسنين، وانها سوف تكون صعبة وقاسية. ويعرف ان تحصيل قائمة الحقوق الفلسطينية المستلبة والمغتصبة يحتاج الى حكمة سليمان وصبر ايوب، وان تحصيلها سوف يتم بالتدريج، وهذا يتطلب عدم رفض أخذ كل ما من شأنه تكريس الشخصية والهوية الوطنية الفلسطينية، وتحسين الظروف والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية وكل ما من شأنه زحزحة الاحتلال عن الارض، ويؤسس للدولة الفلسطينية المستقلة. حتى ولو بدى ذلك جزئيا وصغيرا.
الوصية الرابعة : يعرف الوفد أن طاولة المفاوضات ليست سوى ميدانا من ميادين الصراع. وان الجولة السادسة من المفاوضات معركة من حرب وصراع طويل ومرير، لكنها مفصلية بالقياس لما سبقها ولما سيتلوها. ويدرك الوفد ان لا معارك بدون خسائر. ولهذا لربما كانت المهمة المباشرة والاساسية في هذه الجولة يتطلب المحافظة على زمام المبادرة وعدم التواني عن شن الهجمات المدروسة، بتقديم مقترحات واقعية محددة. وان يتم اختيار اهداف أساسية سهلة المنال والفوز فيها مضمون، وتجنب شن هجمات باتجاه اهداف كبيرة غير مضمون تحقيق انتصارات عليها. فالهجوم على الاهداف الكبيرة والمحصنة ينطلق عادة بعد تعزيز وتقوية المواقع الدفاعية. وفي هذا السياق من واجب وحق الوفد ان لا يقبل وان لا يلتزم بشيء يقفل الطريق على المستقبل وان لا يفرض على الاجيال اللاحقة التزامات يعجزوا عن حملها. وينفس الوقت عدم تضييع ما يساعد الاجيال على تحقيق السلام العادل والشامل والذي لن يتحقق الا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وبتكافيء الوضع السياسي للشعبين، وانتفاء قهر واضطهاد اي من الشعبين للشعب الاخر.
الوصية الخامسة : يلحظ الوفد كثرة التصريحات الاسرائيلية الايجابية، ويلمس بعض الخطوات العملية الشكلية والصغيرة (الحديث عن اطلاق سراح بضع مئات من المعتقلين، وفتح بعض الاحياء والبيوت المغلقة، وتخفيض بعض القيود على النشاط السياسي..)، كما وسيواجه الوفد الفلسطيني بعض المقترحات الاسرائيلية وقد يكون بعضها جديدا. ويعرف الوفد ان ما يقدم في البداية يكون عادة ما دون الحد الادنى وهو مطروح للمساومة والمقايضة. ولعل خير ما يفعله الوفد في مثل هذه الحالة هو اعتبار الاحاديث الايجابية كلام للاستهلاك اذا لم تكن مقرونة بالتزامات محددة. واعتبارها غير ايجابية وتراجعية اذا كانت تقل عن تلك التي صدرت عن حزب العمل ورابين نفسه قبل الانتخابات وخلال فترة وجوده في المعارضة. وايضا اعتبار الخطوات الايجابية الصغيرة والشكلية خطوات في الاتجاه الصحيح لكنها ليست سوى حقوق طبيعية جرى اغتصابها لسنوات طويلة وهي ليست سوى حبة قمح من قنطار مسلوب. ويعرف الوفد ان الحكمة التفاوضية تفرض عدم التسرع وعدم الاستعجال في اعطاء الاجابات على العروض المقدمة. ولا شك ان طلب رفع الجلسات للتشاور ولدراسة المعروض المقدم يعزز من المكانة الاعتبارية والتفاوضية للوفد، ويقوي ويصلب موقفه، ويمكنه من اعطاء اجابات اكثر دقة واكثر شمولية.
الوصية السادسة : يقدر الوفد القيمة الكبيرة للتوقيتات الزمنية الواردة في نص كتاب الدعوة، ويعي انها توازي في اهميتها بقية المواضيع الجوهرية المطروحة للبحث والنقاش.. ويدرك ان عامل الزمن سيف ذي حدين، وقد يكون في الظرف الراهن في غير صالح رفع القهر والاضطهاد عن شعبنا. ان قطع الطريق على كل محاولة لكسر التوقيتات الزمنية امر في غاية الحوية ومهمة تفاوضية استراتيجية. ولعل الدفع باتجاه تحكيم راعيي المؤتمر، والاعلان عن الاتفاق حول القضايا التي تم الاتفاق عليها يسهم في اسقاط كل ذريعة مفتعلة قد تستخدم لكسر التوقيتات الزمنية. على ان يكون ذلك في اطار رعاية التزام راعيي المؤتمر باستكمال كل ما لم يستكمل وضمن سقف زمني محدد. ولعل ترك بعض القضايا معلقة واحالتها للنقاش اللاحق خير من سلقها، وان يأتي ذلك كله في اطار ربط المرحلي الانتقالي بالحل النهائي وتوقيتاته المثبتة.
الوصية السابعة : يعرف الوفد ان للقدس الشريف مكانتها الخاصة عند كل اصحاب الديانات السماوية عامة والفلسطينيون منهم خاصة، ولعل من الضروري ان يذكر الوفد الفلسطيني راعيي المؤتمر والمفاوض الاسرائيلي بان تاريخ المنطقة القديم منه والحديث يقول أن لا سلام ولا استقرار في المنطقة اذا لم يكن بيت المقدس مستقرا. ولهذا فان تأجيل بحث وضع القدس يعني تأجيل السلام والاستقرار، وانه سيبقى معلقا طالما وضع المدينة المقدسة معلق في المفاوضات. ولا شك ان الاتفاق على تعريف حدود مدينة القدس أمرا معجلا وليس مؤجلا ويعلم الوفد ان كتاب التطمينات الامريكية الذي قدمه الوزير بيكر ينص على عدم اعتراف الادارة الامريكية بأية تعديلات او تغييرات في حدود بلدية القدس تتجاوز تلك التي كانت قائمة عام 1967. ولهذا فان تمسك الوفد الفلسطيني بهذا التعريف الامريكي امرا غير قابل للبحث والنقاش وان واجب ودور الراعي الوسيط والامين هو الالتزام بما تعهد به خطيا وشفويا.
الوصية الثامنة : يعرف الوفد الفلسطيني ويلمس جهود الجانب الاسرائيلي باتجاه كسب الموقف الامريكي لجانبه. ولعل من المفيد الاعتراف بأنه بالكلام الايجابي والاستعداد اللفظي للمضي قدما في عملية السلام استطاع كسب ود الادارة الامريكية وحصل على ما عجز عنه سلفه شامير. ويدرك الوفد ان تحالف الادارة الامريكية مع اسرائيل، تحالف قديم، وثابت، وان دخول الجانب الفلسطيني والعربي مؤتمر السلام لا يعني فك هذا التحالف. ولهذا فان كل جهد يبذل باتجاه فك هذا التحالف يمكن اعتباره سلفا جهدا ضائعا. ولعل من الاسلم والافضل بذل كل جهد مستطاع لوضع الادارة الامريكية امام التزاماتها الواردة في كتاب التطمينات الذي قدمته للمفاوض الفلسطيني. ومن حق الوفد الفلسطيني ان يعتبر كل ما ورد في التطمينات الامريكية بمثابة الحد الادنى والذي لا تنازل عنه لا سيما وانه قدم في عهد حكومة شامير المعادية للسلام. ومن حقه ايضا اعتبار النافع والمفيد في اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية وخاصة ما يتعلق منها بانسحاب الجيش الاسرائيلي، واعادة انتشار المتبقي في مواقع محددة، او ما يتعلق بسلطات سلطة الحكم الانتقالي او بحق النازحين في العودة الى بيوتهم..الخ قضايا ملزمة للجانب الاسرائيلي وملزمة للادارة الامريكية باعتبارها شاهدا عليها. وذات الشيء ايضا بالنسبة لما ورد في تقرير صول لينوفيتش مبعوث الادارة الامريكية لمفاوضات السلام المصرية-الاسرائيلية.
الوصية التاسعة : يعرف الوفد الفلسطيني ان المفاوضات الحالية تجري على اسس ناقصة من وجهة النظر الفلسطينية ويعرف ايضا ان الناقص منها سوف يستكمل طالما تواصلت المفاوضات، وان تقدمها يساعد على اختزال زمن النواقص، ويساهم في خلق حقائق فلسطينية جديدة قادرة بديناميكيتها جذب انجازات اضافية بجهود اقل وخسائر اقل. ولعل من الحكمة ان يتبع الوفد اسلوبا يقوم على قاعدة ما لا تستطيع أخذه اليوم ابقيه معلقا للغد وبعد الغد. فمعالجة القضايا بعد قيام السلطة الفلسطينية الانتقالية يختلف نوعيا عن معالجتها الآن. فكثير من المواقف الاسرائيلية الابتزازية الراهنة، وكثير من اوراق القوة التي تستخدمها الان سوف تصبح اوراق ضعف وتصبح نقاط ضعف في الموقف الاسرائيلي بعد قيام سلطة الحكم الانتقالي الفلسطيني.
الوصية العاشرة : بالتدقيق في ظروف ومعطيات الجولة السادسة من المفاوضات يمكن وصفها بأنها بداية موسم الحصاد الفلسطيني الذي طال انتظاره، ودفع شعبنا ثمنا باهظا من أجل الوصول له. ويعرف الوفد الفلسطيني شدة حرص الفلاحين الفلسطينيين على قطف محصولهم ساعة نضجه، ومدى حرصهم على عدم السماح للهب الصيف ان ييبسه، ويصعب حصده، وبالتالي تمكين الرياح من تكسيره او تبديده. وكما يعرف الوفد فان من أبرز عادات الفلاحين الفلسطينيين في اوقات الحصاد تركيز جهدهم الجماعي على الحقل كله. والهجوم عليه من كل الجهات في “مجموعات عمل” تستلم كل منها واجهة محددة، ولا توقف العمل فيها الا بعدما تتشابك مناجلها مع مناجل المجموعات الاخرى المقابلة لها او القادمة نحوها من الاطراف الاخرى. ويدرك الوفد ان ناتج الحصاد في هذه الجولة وفي هذا العام مهما رغم كونه ضئيلا وليس نقيا، وانه سوف يحتوي على كثر من “الزوان” و”الضريس” ومما لا شك فيه ان المصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض على الوفد الفلطسيني حصد كل ما يقع امامه بما في ذلك “الزوان” و”الضريس” وهو يعرف ان فرز القمح عن سواه لا يتم ساعة الحصاد، وانما بعد تجميع كل الغلة فوق “البيدر” وبعد درسها ومع بدء هبوب الريح المساعدة على ذلك. ورياح فصل القمح الفلسطيني عن الزوان وعن القش تبدأ مع قيام السلطة الفلسطينية الانتقالية المنتخبة. وهذه أمور يعرفها الوفد ولا يحتاج بالتأكيد لمن يذكره فيها.