رياح الانتخابات الأمريكية تعصف بحكومة علاوي في بغداد
بقلم ممدوح نوفل في 04/07/2004
قبل وبعد نقل السلطة للحكومة العراقية المؤقتة، شدد الرئيس بوش على أن “العراقيين سيقودون بلدهم إلى الحرية والاستقرار، وسيقتصر دور قوات التحالف على مساندة القوات العراقية لضمان الأمن”. وبصرف النظر عن تطبيقات أقوال بوش على أرض العراق وأسباب تعجيل نقل السلطة للعراقيين، فالخطوة تمثل بداية مرحلة جديدة في تاريخ العراق، وتثير جملة من الاسئلة الحاسمة في رسم مستقبله: هل نقل السلطة يوم 28 حزيران/ يونيو 2004، محطة على طريق الاستقرار والخلاص من الاحتلال وبناء عراقي ديمقراطي أم تكرّس الاحتلال والديكتاتورية بلباس عراقي ؟ هل ستتمكن حكومة السيد علاوي اخراج العراق إلى بر الأمان، أم أن رياح الانتخابات الأمريكية تلقي بظلالها على العراق حكومة وشعب؟ هل يتفق العراقيون على تصور استراتيجي يقلل خسائرهم ويعجل رحيل الاحتلال، أم أن إرث نظام صدام وتخيل بعض القوى بامكانية “فتنمة” العراق يزيد في خسائر العراقيين ويطيل أمد الاحتلال ويعرض البلد لخطر الغرق في حرب داخلية مدمرة؟
أعتقد ان الصراع السياسي والدموي الجاري على أرض العراق يفتح على احتمالات عدة، وليس سهلا على اكثر الخبراء دراية بالعراق وبالسياسة الأمريكية تقدير مسار الأحداث في هذا البلد المنكوب وتقديم اجابة قاطعة على الأسئلة التي أثارها اعلان انتهاء الاحتلال ونقل السلطة للعراقيين. لكن صعوبة قراءة المستقبل لا يحول دون رؤية قضايا أساسية باتت أقرب إلى حقائق منها:
1) ان عملية نقل السلطة محطة هامة في رسم مستقبل العراق وتحديد علاقاته الوطنية والخارجية، لكنها لم تحدث تغيرا نوعيا في صورة الوضع وفق تطلعات العراقيين. ولم توفر الامن والاستقرار وما يزال الوضع مضطربا في كافة المناطق والميادين الامنية والسياسية والطائفية والعرقية. ونقل السلطة للحكومة المؤقتة لم ينهي الاحتلال وبقى يرابط على ارض العراق أكثر من 150 ألف جندي وضابط امريكي ومن قوة متعددة الجنسيات، يأتمرون بأوامر قياة امريكية وبقائهم وزيادة أعدادهم وعدتهم أو تقليصها رهن بقرارها وحدها. وينتاب العراقيين ودول الجوار قلق من اندفاع الوضع نحو الاسوء وبعضها يرى في الوجود الامريكي في العراق خطرا على امنه القومي. واكثر الناس تفاؤلا بنقل السلطة لا يمكنه التبشير بان هذه خطوة ستمر بهدوء وسلام.
2) ليس في الأفق ما ينبؤ بحل سياسي للازمة وهدوء الوضع قبل الانتخابات الامريكية، وتوصل العراقيين سلطة ومعارضة سنة وشيعة وأكراد إلى تصور استراتيجي واقعي موحد يقلل خسائرهم ويعجل رحيل الاحتلال عن بلدهم ويحفظ وحدته. فالصراع على السلطة بين الطوائف والاقليات ظهر على السطح ويبدي البعض طموحات يصعب على الآخرين قبولها، ويتوقع ان يكبر اكثر كلما اقتراب العراقيون من موعد اجراء الانتخابات مطلع العام القادم. ورغم ان تجارب شعوب كثيرة اكدت ان الحوار هو السبيل الاقل كلفة في حل النزاعات الداخلية فإن مواقف القوى العراقية المحلية والوافدة والأخرى المتورطة في الصراع تشير إلى أنها مصممة على حسم الموقف بالرصاص والسيارات المفخخة. ولا أظن أن مراقبا يمتلك حدا أدنى من الخبرة يمكنه القول أن حكومة علاوي ومعها وحدات الشرطة والجيش والمخابرات حديثه التكوين قليلة العدد ضعيفة العدة، قادرة على ملء الفراغ وضبط الوضع وتحقيق ما فشلت في تحقيقه قوات التحالف المدربة جيدا المدججة باحدث الأسلحة. واظن أن تبديل يافطة الاحتلال الامريكي بشعار قوات متعددة الجنسية لا يحل الاشكال والتهديد باللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ قد يزيده تعقيدا.
3) إن المعركة الجارية في العراق حاسمة في تحديد ليس فقط مستقبله وتقرير مصير قواه “الوطنية والإسلامية” الوافدة والمحلية، بل وأيضا التوجهات الاستراتيجية لإدارة الرئيس بوش المتعلقة بالشرق الاوسط الكبير ونشر الإصلاح والديمقراطية في المنطقة. ويخطأ من يقلل من تأثيرات المخاض والتحولات في العراق على أوضاع شعوب وحكومات دول الجوار وعلاقات بعضها ببعض وأيضا على الصراع العربي الفلسطيني ـ الإسرائيلي. واذا كانت معركة مصيرية بهذا المستوى تدفع المتورطين فيها الى زج كامل طاقاتهم واطالة امدها، فان تجربة سنوات الحروب الداخلية في لبنان والجزائر وجنوب السودان..الخ تؤكد ان استمرار حال القلق والاضطراب في العراق يؤثر على جيرانه ويؤخر قيام سلطة مركزية قوية ويربك عملية اعادة الاعمار ويضعف موقف القوى الوطنية والديمقراطية، ويخلق مناخا مواتيا لنمو القوى المتطرفة ويعزز النعرات العرقية والطائفية والجهوية والعشائرية والقبلية ويزيد في وزنها.
4) أكدت مجريات الصراع منذ انهيار نظام صدام أن القوى المعارضة السياسية للاحتلال ليست ضعيفة وقادرة على التأثير في المشهد. وان “المقاومة المسلحة” المحلية والوافدة قوة لا يستهان بها فشلت قوات التحالف على امتداد عام في الحاق الهزيمة بها. وكثافة العمليات الحربية ضد القوات الامريكية وضد الشرطة العراقية قبل وبعد نقل السلطة يشير إلى انها من تدبير قوى منظمة تملك خبرة عسكرية واسعة. ومعارك الفالوجة وتفجير “المقاومة” عدة سيارات مفخخة في عدة مدن عراقية في وقت واحد ودخولها في الوقت ذاته في اشتباكات مع الاحتلال يدل على أن امكاناتها كبيرة، وعملياتها من فعل خبراء محترفين وليست هواة تلقوا تدريبات محدودة. وإذا كان الباحث والمراقب المحايد لا يمكنه تصور خروج القوات الأمريكية من العراق مهزومة، فليس في الأفق ما يشير إلى أن “المقاومة” سوف تبدل موقفها وتتعاون مع الحكومة المؤقتة. وتؤكد أعمال “المقاومة” وبياناتها عزمها مواصلة القتال حتى رحيل الاحتلال. وإذا كانت الأيام الأخيرة من حكم بريمر هي الأكثر دموية فلا أحد يضمن أن تكون أسابيع ما بعد نقل السلطة أقل عنفا. بل ان دلائل كثيرة تشير إلى مرحلة أكثر صعوبة هدفها الرئيس خلق حالة فوضى في عموم المناطق واثبات فشل حكومة علاوي في السيطرة على الوضع، حتى إذا تسبب ذلك في قتل عشرات ومئات المدنيين العراقيين الابرياء.
5) بصرف النظر عن اسباب استقالة مدير ال سي أي أيه جورج تنيت من منصبه، وعن رأي وزير الدفاع رامسفيلد ومخطط الحرب ولفوفيتز ومعاونوهما، فمجريات الصراع على ارض العراق والمخفي والمعلن بين اركان ادارة بوش بين بجلاء أنهم ارتكبتوا أخطاء كثيرة في التحضير للحرب وفي ادارتها. واخطائهم خلال فترة الاحتلال “الرسمي” كانت افحش: وهم لم يقدروا موقف الشعب العراقي بدقة وظنوا أن تحريره من الديكتاتورية يكفي للترحيب بالقوات الامريكية حتى إذا تحولت إلى قوة احتلال. استصغروا شأن قوة الخصوم المحليين والأمميين الإسلاميين وأخطأوا عندما تعجلوا وتجاوزوا الأمم المتحدة وتفردوا في غزو العراق، ولم يمنحوا وزارة الخارجية والجيش الامريكيين فرصة التحضير للحرب والتخطيط لما بعد الإطاحة بنظام صدام. وفقد الرئيس الأمريكي وأركانه مصداقيتهم عندما عجزوا عن تقديم دليل على وجود أسلحة دمار شامل وفشلوا في إثبات صلة نظام صدام بتنظيم القاعدة. وجاءت فضيحة تعذيب المعتقلين في سجن ابو غريب وقوضت الرؤية الأخلاقية التي طرحتها إدارة بوش عند غزو العراق وروجت لها على مدى عام ونصف من احتلاله.
استنادا لهذه الحقائق المؤلمة يبو أن حال الإضطراب في العراق سوف تستمر فترة ليست قصيرة، وأيام وأسابيع ما بعد نقل السلطة لن تكون اقل قسوة وصعوبة عن الايام الدموية التي سبقت 28 حزيران/يونيو. والواضح أن أخطاء رامسفيلد ولفوفيتز الفاحشة واعباء تركة بريمر تربك حكومة العلاوي وتحد من قدرتها على تنفيذ توجهاتها. بدءا من منح من عاد من المنفى وزنا أكبر من اللازم على حساب المقيمين من القادة والقوى أصحاب النفوذ الحقيقي في الشارع، مرورا بحل الجيش وباقي أذرع المؤسسة الامنية العراقية وحرمان أفرادها وعائلاتهم لقمة العيش وقذفهم في أحضان “المقاومة”، وانتهاء بما عرف بسياسة تطهير المؤسسات المدنية والتلكؤ في السماح للعراقيين المشاركة في اعادة تشكيلها.
إلى ذلك، يبدو أن الحال سيزداد تدهورا كلما اقتربنا من استحقاق الانتخابات الامريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. خاصة أن مواقف “المقاومة” المحلية والمتحشدة من الخارج تشير إلى انها تتصرف انطلاقا من أن بقاء بوش وأركانه المتطرفين تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز في السلطة يعرض وجودها ومصالحها للدمار ويطيل أمد الاحتلال ويعرض دول الجوار لأخطار جمة. وبعضها مقتنع بأن خطأ الادارة الامريكية في العراق توفر فرصة للانتقام من “الشيطان الأكبر” وأركانه بسبب معاداتهم “للإسلام والمسلمين” ومساندة إسرائيل. ويسعون إلى تعطيل الانتخابات العراقية، والتأثير في موقف الناخب الأمريكي وتحديد وجهة تصويته. ويبدو انهم مصممون على تحويل العراق إلى صندوق اقتراع دون الاكتراث بما يحل بالعراقيين من خراب ودمار. وبديهي القول أن تدهور الوضع في العراق يؤثر على القوى الإقليمية المجاورة إيران وتركيا والسعودية وسوريا وحزب الله اللبناني والاردن على زيادة تدخلها وتعزيز نفوذها ونفوذ اصدقائها وصد الرياح الضارة التي تنبعث منه. وأظن أن اتهام “القاعدة” و”ابو مصعب الزرقاوي” بالوقوف خلف العمليات يوسع نفوذ القوى المتطرفة ويبث الرعب من جبروتها وقدراتها. وإذا كان الحديث عن “فتنمة” العراق ينم عن جهل بدور الحرب الباردة في صناعة النموذج الفيتنامي فعدم الاعتراف بان الجيش العراقي، وليس فلول الصدام، هو الذي يقوم بمعظم اعمال المقاومة، لا يساعد في الامساك بالحلقة المركزية لحل العقدة. واستمرار تعرض عشرات الالوف من افراده للتجويع والاهانة والظلم يطيل الصراع ويوسع مداه. واستنكاف العرب عن المساهمة في انقاذ العراق يعرض أمنهم القومي لاخطار كثيرة متنوعة.