العرفاتية: تاريخ شعب في سيرة رجل
بقلم ممدوح نوفل في 05/01/2005
عرفات أحب الحياة على طريقته الخاصة:
يبدو عرفات لمن لا يعرفه انسانا قاسيا معقدا ولغزا محيرا يصعب فهمه، لكنه في الواقع كان رجلا ودودا خجولا متواضعا، ظل يحب الحياة الدنيا رغم أنه لم يستمتع بملذاتها التي يستمتع بها الناس العاديون. استمتع بها على طريقته الخاصة: أحب السلطة بشغف واستمتع بها وبكل توابعها بدءاً من سهر الليالي وعقد اجتماعات “القيادة الفلسطينية” الماراثونية، والمشي فوق البساط الاحمر واستعراض حرس الشرف أينما حل وأداء التحية عندما تعزف الفرق الموسيقية النشيد الوطني، مرورا بمخاطبة زعماء العالم وتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، وانتهاء بإصدار الاوامر الخطية والشفوية الإدارية والعسكرية، وصرف المساعدات المالية لدعم المحتاجين فعلا. ولم يرد أبوعمار طلب مساعدة وصل يديه، وكثيرا ما استفاد من كتاب “يصرف له” نصابون، وخرق به النظم والقوانين المالية والإدارية الرسمية.
وفي سياق الحديث عن عرفات الانسان لا يستطيع أي باحث تجاهل انجازاته في أربعين عاما ودوره في قيادة شعبه على طريق الحرية والاستقلال وإقامة الدولة. ولا يمكن تجاهل دوره في تفجير الثورة وتحويل اللاجئين الفلسطينيين “الفقراء والمساكين” الى مناضلين، وتحويل المخيمات من تجمعات سكانية بائسة تعتمد في حياتها على مساعدات “وكالة الغوث” الى بؤر ثورية تخرّج مناضلين من أجل الحرية.
تمتع عرفات بحدس ثوري خاص ورأى في حرب حزيران/يونيو 1967 وهزيمة نظام عبد الناصر فرصة لاستبدال شعار “الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين” بشعار “الكفاح الفلسطيني المسلح طريق التحرير والعودة “. وقوبلت أقواله بالشكوك واعتبر حديثه عبثيا يستهدف مواساة الذات. ولم ينتظر عرفات تحرك الآخرين وتسلل بعد الحرب مباشرة الى الضفة الغربية، وشرع في تأسيس قاعدة شعبية وخلايا سرية لمقاومة الاحتلال مستلهما تجارب الشيخ عز الدين القسام وثورة الجزائر. وظلت ثورة عام 1936 في فلسطين وثورات الصين الشعبية وفيتنام وكوبا نماذج ماثلة أمامه فترة طويلة.
في حينه اتخذ عرفات من مدينة نابلس وريفها مقراً لقيادته، وعرفه الفلاحون وأهل المدينة باسم “الحاج أبو محمد”. وبدت له نابلس قاعدة مثالية للعمل الفدائي بفضل أزقة “القصبة” الضيقة والمتعرجة والمكتظة بالسكان وتاريخها وتاريخ ريفها الحافلين بالنضال ضد الاستعمار الانكليزي وضد هجرة اليهود. ومن نابلس راح “أبو محمد” يتنقل بين مناطق الضفة الغربية من جنين في أقصى الشمال، مروراً برام اللـه والقدس في الوسط وحتى الخليل في الجنوب، ومنها مد اتصالاته إلى مدن قطاع غزة ومخيماته ومناطق النقب والمثلث والجليل. وعمل على جمع ما أمكن من الأسلحة والذخائر وفتح معسكرات التدريب في كروم الزيتون. وارتدى لباس الفلاحين، وهناك اعتمد الحطة “الكوفية” غطاء للرأس، ومنذ ذلك التاريخ لم تغادر الحطة رأسه إلا ما ندر، وفي المرحلة الأولى استحسن اللون الأبيض اسوة بالوجهاء وكبار السن من الفلسطينيين، وبعد مغادرة الضفة اعتمر “أبو عمار” الحطة المرقطة بخطوط سوداء وقلده ربعه من الفدائيين، وصارت لاحقاً شعاراً ورمزاً للمناضلين من أجل الحرية والداعمين لها.
وبصرف النظر عن تقييم دور عرفات وأسلوب عمله في خدمة قضية شعبه يسجل له نجاحه في طبع مرحلة كاملة من حياة الحركة الوطنية بطابع “عرفاتي” مميز يصعب محوه من الذاكرة الفلسطينية. فقد أدرك من البداية أن المال والإعلام ركنان أساسيان من أركان القيادة وأحكم سيطرته عليهما في فتح ومنظمة التحرير. واحتفظ في جميع مراحل حياته بشخصية مزدوجة: شخصية عرفات البراجماتي المرن وشخصية أبو عمار الفدائي المبدئي، وكثيرا ما تصادمت الشخصيتان في محطات اتخاذ القرارات الصعبة.
لم يرث عرفات الزعامة عن أب أو جد وبلغ موقع قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير ورئاسة دولة فلسطين بجهده الشخصي، وبنى رصيدا نضاليا كبيرا وراكم خبرة غنية. وبهذا الرصيد وتلك الخبرة عزز مكانته في صفوف شعبه. وكرس شرعيته التاريخية عبر نضال طويل وانتزع بجدارة شرعيته الدستورية والقانونية عبر الانتخابات. وبعد انتخابه اول مرة رئيسا لدولة فلسطين في المجلس المركزي في تونس في ربيع 1989 تغلبت شخصية أبوعمار الفدائي على رئيس الدولة عرفات. وبعد عودته الى أرض الوطن وانتخابه بالتصويت الشعبي الحر المباشر ظل يحافظ على شخصية الفدائي، وقال أكثر من مرة: “إياكم أن تخطئوا، انتخابي رئيس دولة واصطفاف حرس الشرف لأداء التحية واستقبال زعماء العالم لي لا يغريني ولن أتخلى عن بندقية الثائر ولا تنسوا أني لم اخلع بدلتي العسكرية بعد”. ويومها قال له أحد المقربين مازحا: تعبنا هل ستخلعها بعد دخول القدس؟ قال: ربما ولكن مش أكيد..
واجه عرفات منذ توليه زعامة منظمة التحرير العام 1968 محاولات إسرائيلية ودولية وعربية وفلسطينية لزعزعة مكانته القيادية في المنظمة وفي حركة “فتح” التي ساهم في تأسيسها. وظلت حياته صاخبة مليئة بالحركة والمفاجآت وكانت دوما حافلة بالأحداث. عاش أكثر من نصف قرن في ميدان العمل السياسي والحركي وسط حقول من الألغام والمتفجرات وكانت دائما قابلة للاشتعال السريع والانفجار في كل لحظة. لكن مرونته و”ميكيافيليته” وقدرته العالية على قراءة حركة الزوابع السياسية قبل وصولها إليه، واتقانه المناورة والتكتيك وبناء التحالفات وفكها بسرعة، مكنته الخروج بسلام من الكمائن السياسية والحزبية التي نصبت في طريقه، ونجح في مقاومة محاولات تقليص نفوذه وتحويله إلى شخصية رمزية مجردة من الصلاحيات. وهو لم يكن يسلم بسهولة بوقائع لا يرغبها ولم يستسلم يوما للخصوم والأعداء. وسخر من الموت وتمرد عليه عندما فاجأه في السارة في الصحراء الليبية.
امتاز عرفات بقدرته على التعامل مع جميع صنوف البشر، وظل يحب التفاصيل ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة. ولم ينسف جسرا بناه مع عدو أو صديق، وكان يحرص على بقاء شعرة معاوية حتى في علاقته مع الشيطان. ولم يكن يغضب من رواية حكايته مع إبليس التي تقول: ذهب عرفات لأداء مناسك الحج، وفي موقع رمي الجمرات، رجم إبليس 6 جمرات فقط واحتفظ بالحجر السابع، وظن مرافقه أن أبو عمار أخطأ في العد وقال له سيدي الرئيس سيدي الحاج رميت 6 رجمات فقط..أجابه بصوت منخفض: إغرش يا ابني، لا ترفع صوتك حتى لا يسمعنا الله، من يدري قد تتبدل المواقف وقد تتحسن يوما ما علاقة إبليس مع الله وعندها أذكّره بأني كنت أرحم به من الآخرين”..
ولم يكن يحتمل وشوشة اثنين في حضرته حتى لو كانا اقرب الناس اليه، وكان يتدخل ويحاول معرفة ما دار بينهما وكثيرا ما كان ينهض ويفرقهما ويجر أحدهما بيده الى مكان قريب منه.
ظل أبو عمار أعزبا قرابة ستين عام وكان يفاخر بزواجه من القضية ومعها بندقية، وظل يستمتع بإزعاج إخوانه المتزوجين باستدعائهم في أوقات متأخرة من الليل. وفي إحدى السهرات بعد انتخابه رئيسا لدولة فلسطين في تونس مطلع نيسان/ابريل 1989سأل أحدهم أبو عمار: تخيل أننا نجحنا وطردنا الاحتلال بعد سنتين أو ثلاث من فلسطين وأقمنا دولة مستقلة فهل ستتزوج وتنهي غيرتك من المتزوجين، وتتركنا ننام دون استدعاءاتك المعهودة بعد منتصف الليل؟ رد بسرعة وقال مازحا: لن أترككم تنعمون بما لا أنعم به. وأضاف بجدية: زواج ما رح أتزوج…أنا راجل كبرت وصرت عجوز ولن أجد من تقبل بي. ثم كيف أتزوج وهناك في العروبة والاسلام من يتآمر على القضية. الزواج قد يلهيني بعض الوقت عنهم وهذا تقصير خطير ولن أتحمل مسؤوليته أمام الله والتاريخ..وعندما تزوج لم يقم الأفراح ولم يحيي الليالي الملاح.
في “زمن الدولة” وقبله زمن الثورة، لم يبق مجال عمل لم يتدخل فيه أبو عمار، وكرس عادات ثابتة فرضت نفسها على العمل الفلسطيني مدى ثلث قرن، وامتاز بطاقة عالية وظل سنوات يعمل أكثر من خمسة عشر ساعة في اليوم، وكان منتصف الليل ذروة نشاطه وصفاء ذهنه. شغله الجدي يبدأ بعد الثامنة مساء ويواصل السهر حتى الفجر ولا ينام قبل الرابعة صباحا. يتناول طعام العشاء قبل أو بعد منتصف الليل بقليل ثم يصلي صلاة الفجر وينام. وظل أبو عمار يكره الجلوس على مائدة الطعام بمفرده وكان يستدعي الحرس والمرافقين ومن يتواجد في مكتبه الى مائدته إذا غاب الضيوف.
بعض المقربين توقعوا بعد زواجه حدوث تبدل وتغير في عاداته إلا أنه خيب ظنهم. وكثيرا ما سببت عادة العمل في الليل ازعاجا لكثير من الصحفيين والسياسيين. المرحوم كمال جنبلاط كان واحدا منهم وذات مرة تساءل لماذا تتشابه القيادة الفلسطينية في عملها مع العاملات والعاملين في النوادي الليلية..!
ظل يتصرف كخبير في جميع ميادين العمل العسكري والسياسي والاقتصادي، بدءاً من بناء الجسور وشق الطرق باعتباره مهندساً مدنياً رسمياً وحتى إدارة المفاوضات مع أعظم الرؤساء وأعرق الخبراء، “بدءا من إصدار الأوامر بصرف ملابس المقاتلين وأحذيتهم وذخيرتهم وانتهاء بادارة المحادثات مع الزعيم بريجنيف” حسب تعبير الشهيد سعد صايل “أبو الوليد” مدير غرفة العمليات في زمن دولة الفاكهاني في بيروت.
كان عرفات رجلاً تكتيكياً مناوراً من الطراز الأول خاصة في إدارة الصراعات الداخلية، وتفرد في قيادة السفينة الفلسطينية وسط البحور الهائجة التي عبرتها في النصف الثاني من القرن العشرين، ونجح بجدارة في إحكام سيطرته على الوضع الداخلي “الفتحاوي” الخاص والفلسطيني العام، وفرض مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الوطنية سنوات طويلة. وحافظ بثقله المعنوي والسياسي على جملة من التوازنات داخل حركة فتح وفي الساحة الفلسطينية يصعب على خليفته أيا كان اسمه التحكم بها والمحافظة عليها. وكرس نمطا خاصا من العلاقات يمكن وصفها “بديمقراطية التراضي” وكان يحب أن يسميها “ديمقراطية غابة البنادق”، وأرسى أسس استقلالية الحركة الوطنية واستقلالية قرارها. ويسجل له أنه نجح في طبع مرحلة كاملة من تاريخ الشعب الفلسطيني بختم عرفاتي يصعب محوه.
تحمّل قهر الحنين للوطن بصبر الواثق من العودة وظل راسخ الايمان بأن الثورة ستنتصر وسوف يعود ويبني الدولة وعاصمتها القدس شاء من شاء وأبى من أبى.. وأن طفلا فلسطينيا سوف يرفع علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس.. ونجح بتفوق في إعادة اسم فلسطين الى خريطة المنطقة الجيوسياسية، وساهم بفعالية في اقناع دول العالم وزعمائها بعدالة قضية شعبه وبحقه في الحرية والاستقلال. وكان يولي العلاقات الشخصية مع الزعماء أهمية كبيرة واعتبرها ركنا هاما من أركان العمل من أجل القضية وكسب تضامنهم ضد الظلم. كان شجاعا وقت الشدائد والمحن وظل قائدا ميدانيا يهتم بأوضاع المقاتلين ويحفظ عن ظهر قلب أسماء الكوادر. والموقع الذي لم يزره أبان المعارك في النهار زاره في الليل.
بقي أبو عمار حتى مماته يعتز بأنه قائد شعب الجبارين وفي أحد زياراته للهند قيل له هناك شاب فلسطيني نجح في وراثة حكم طائفة يبلغ تعدادها 12 مليون مواطناً هندياً وهو يرغب باللقاء بكم ويتمنى عليكم إظهار احترامكم له ولتقاليد جماعته. وافق أبو عمار على الطلب واستقبل “الراب” وفقا للتقاليد وفي الخلوة الثنائية شكر الشاب الفلسطيني أبو عمار على حفاوة الاستقبال ووضع نفسه تحت تصرفه. وسأله أبو عمار كيف وصل الى هذه المرتبة الدينية العالية وروى الشاب القصة بصدق وصراحة، وفي نهاية الرواية تفاخر الشاب “الراب” بعدد اتباعه الكبير “12 مليوناً” وسأل أبو عمار كم عدد اتباعك الفلسطينيين؟ رد أبو عمار: “أنت لديك 12 مليون انساناً عادياً لكني أقود 6 ملايين، كل واحد منهم يعتبر نفسه راب زيك..”
كان أبو عمار رجلا مؤمنا يصلي ويصوم ويقرأ القرآن في شهر رمضان لكنه لم يكن متزمتا في الدين ولم يطلب من أحد الصلاة معه ولم يقاوم عدم التزام المقربين منه بالصيام. وكثيرا ما استخدم الدين لأغراض سياسية. تعرّض أبوعمار في حياته لعديد محاولات القتل والاغتيال وكان لديه حدس أمني خاص أنقذه مرات كثيرة من موت محقق. صحيح أنه رجل قدري آمن بالقضاء والقدر لكنه آمن أيضا بقول الرسول “اعقل وتوكل”. وظل يولي مسألة أمنه الشخصي أهمية استثنائية ويشرف عليه بنفسه. وبفضل يقظته الأمنية واشرافه المباشر على ترتيبات أمنه، تمكن من البقاء على قيد الحياة سنوات طويلة. وبعد حرب الخليج وقبل مؤتمر مدريد للسلام عام 1991عاش عرفات حالة قلق شديد على أمنه، وبعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 صار أكثر اطمئنانا، واعتقد أنه لم يعد مستهدفا من قبل الأمريكان والإسرائيليين.
كان أبو عمار عنيدا في الدفاع عن القضايا الوطنية وظلت مناكفة الملوك والرؤساء العرب وغير العرب حول المسائل الفلسطينية الجوهرية والشكلية تبعث في نفسه نشوة استثنائية. وبقي حتى آخر يوم في حياته يتباهي بجرأته في التصدي لكل من حاول التطاول على حقوق الفلسطينيين، وآخرها، أنه الوحيد بين الزعماء العرب الذي قال لا كبيرة للرئيس الامريكي “بيل كلينتون” في عقر داره في البيت الابيض عندما طالبه بتقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية المتعلقة بالقدس ومقدساتها وبالارض وحقوق اللاجئين. ويومها رفض أبو عمار الخضوع والاستسلام لكلينتون ومساعديه ودعاهم للسير في جنازته.
وإذا كان عرفات معروفاً في أوساط النظام الرسمي العربي بأنه مفتعل الأزمات ومنبع المشاكل منذ بدأ الكفاح المسلح، واتهم في عهد بوش وشارون بالارهاب والفساد وتزعم حركة ارهابية وأنه يقود شعبه نحو الهلاك..الخ، فإن وقائع الحياة تدحض ذلك، وتؤكد أنه مثّل تيار الاعتدال في الساحة الفلسطينة ولم يكن متطرفا. وهو نفسه تحول بقدرة قادر بين ليلة وضحاها بعد اتفاق اوسلو الى رجل سلام يؤمن بالتعايش بين الفلسطينيين والاسرائيليين وأفنى حياته بحثاً عن السلام. ولاحقا دخل البيت الابيض أكثر من 30 مرة، وسجل رقماً قياسياً في دخول هذا البيت وفي عدد اللقاءات بين أي زعيم عالمي ورئيس أمريكي.
باعتقادي أنه الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي كان بإمكانه توقيع اتفاق سلام من مستوى اتفاق اوسلو. ولا أحد سواه كان بإمكانه انتزاع قرار واضح من المجلس الوطني عام 1996 بإلغاء بنود “الميثاق الوطني” شبه المقدس عند بعض. ومن حاز على جائزة نوبل للسلام لا يمكن أن يكون ارهابيا يعشق القتل والدمار. وسوف يسجل التاريخ أن رحيل عرفات خسارة كبيرة لا تعوض لحقت بأنصار صنع السلام في الشرق الاوسط، وأنه ساهم في ايقاظ أمة من سباتها ونبهها إلى أخطار استراتيجية تحيق بها.
عرفات رجل سياسي مقاتل
يصعب الحديث في تاريخ فلسطين السياسي ومسيرة الحركة الفلسطينية في النصف الثاني من القرن الماضي بمعزل عن سيرة عرفات الشخصية والنضالية. وسيرة الرجل تؤكد تميزه بقدرة عالية على تحسس اتجاه رياح السياسة الدولية قبل وصولها الى محيطه. ورغم تشبثه بلباسه العسكري واعتزازه بأنه مقاتل ميداني إلا أنه كان رجل سياسة وظل طالب سلام حقيقي. رفع غصن الزيتون في غمرة تمجيد الكفاح المسلح وناشد الامم المتحدة “لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”. ونجح في دفع الحركة الفلسطينية خطوة نوعية باتجاه الواقعية، وقاد الحوارات الوطنية وكان دوره حاسما في بلورة “مبادرة السلام الفلسطينية” التي تضمنت الموافقة على فكرة دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية. وفي عهده نبذ الفلسطينيون الارهاب واعترفوا بقراري الأمم المتحدة 242 و338 أساسا لحل القضية وإنهاء النزاع.
وبعد الترحيب الدولي بمبادرة السلام وانفتاح باب الحوار الفلسطيني الأمريكي المباشر 1988، اعتقد عرفات أن الوقت قد حان لخلق منصب رئيس دولة فلسطين. وقاد مطلع نيسان عام 1989 مناورة طويلة عريضة في المجلس المركزي لانتخابه رئيسا للدولة. واعترض صلاح خلف “أبوإياد” الرجل الثاني في فتح والمنظمة وعدد من أعضاء المجلس على الطريقة الملتوية التي فرضها عرفات على المجلس في مناقشة المسألة. يومها بكى أبو عمار وصاح في أعضاء المجلس: أنا لم أصل موقعي بالوراثة أو بانقلاب عسكري بل بتعبي وأعمالي من أجل فلسطين. وقدم استقالته ولم يعد عنها إلا بعد أن دوّخ جميع أعضاء المجلس، وانتقد بعضهم نفسه.. وتعهدوا بانتخابه رئيسا لفلسطين وقال بعضهم مازحا “سامحنا وسننتخبك رئيسا للأبد”. وانتخب بالاجماع في تلك الدورة باستثناء أبو إياد الذي رفض المشاركة في التصويت احتجاجا على الأسلوب. وبعد عودته من المنفى الى أرض الوطن عام 1994 أصر على المشاركة في انتخابات الرئاسة ورحب بوجود منافس له وقال: “بعدي، لا رئيس غير منتخب لشعب فلسطين”.
صحيح أن الرياح لم تجر كما اشتهى عرفات ولم يسفر الحوار الفلسطيني الأمريكي عن نتائج ملموسة، إلا أنه أرسى الأساس الذي بنى عليه الرئيس الامريكي بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر بعد حرب الخليج الأولى عام 1991 مبادرتهما الشهيرة لصنع السلام في المنطقة، ورحب بها عرفات دون انتظار اجتماع القيادة، ومهدت الطريق لعقد مؤتمر مدريد للسلام. ورغم أن الدعوة للمؤتمر لم تتحدث عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير واستبعدت أي دور مباشر للمنظمة..إلخ، إلا أن أبو عمار وافق عليها بأمل تجنيب الشعب الفلسطيني مزيدا من الخسائر، وانقاذ المنظمة من الدمار خاصة أنها اتهمت بمساندة احتلال صدام لدولة الكويت، وراهن على قدرته إحداث تغيير في مضمونها من خلال التعاطي الإيجابي معها.
مع افتتاح مؤتمر مدريد للسلام في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1991 وقبل أن تبدأ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الرسمية للسلام، كان الهم الطاغي على تفكير عرفات هو موقع ودور م.ت.ف. والخوف من تحول الوفد الفلسطيني المفاوض إلى قيادة بديلة، حتى لو لم يكن أي من أعضاء الوفد مستعداً للتفكير في الموضوع. الأمور كما كان يراها أبو عمار ليست بالنوايا بل بالنتائج، وإصرار رئيس الحكومة الإسرائيلية شامير على تشكيل الوفد من الداخل فقط وأن يكون جزءا من وفد مشترك مع الأردن، كان بمثابة إنذار مبكر حول سوء نوايا اسرائيل. وكانت حالة الخوف والقلق تنعكس بشيء من الانفعال في أقوال أبوعمار: “يا إخوان، الأمريكان لن يغفروا لنا مواقفنا السابقة، خاصة في حرب الخليج. ويريدون من عرفات أن يكون ذكر النحل الذي يلقح مرة واحدة ويموت”. وكان يضيف “مرحبا بالموت، إذا كان موت عرفات يخدم القضية”.
وعلى امتداد مفاوضات مدريد-واشنطن ظل أبو عمار حريصا على دفع الوفد الفلسطيني باتجاه التشدد والتصلب. وكان يتعمد إعطاء التعليمات مباشرة للوفد عبر الهاتف وأن تكون بصوته بقصد إسماع الأمريكان وإقناعهم بأنه مرجعية الوفد في كل صغيرة وكبيرة. وحرص على كسب ود وولاء أعضاء الوفد بطرق شتى، وفي إحدى اللقاءات دافع عن ارتفاع خيالي في فاتورة تلفون أحد الأعضاء وبرر الأمر: “الأخ معذور نحن لاجئين، نحن شعب الصفر صفر نحب الاتصالات الدولية”. وأكد نيابة عن المعني أن اتصالاته تمت مع الاهل والأقارب اللاجئين والنازحين في شتى أنحاء المعمورة..
وفي الوقت الذي كان عرفات يتعمد دفع الوفد الى التشدد، أكثر في الحديث عن أهمية المفاوضات السرية. وظل يردد: “المفاوضات الرسمية بين عشرين إنساناً لا توصل إلى حلول، ولا غنى عن قنوات خلفية سرية إذا أريد للعملية النجاح”. وأكثر من تصريحاته عن سلام الشجعان، وزاد من وتيرتها في عهد إسحق رابين وأضاف إليها مقولته المعروفة “إسرائيل تفتقد إلى ديغول”. وعندما حاول رابين كسر الجمود وقدم إغراءات للوفد علّه يتجاوز المنظمة ويعفيه من مواجهة عرفات، كان أبو عمار يقظا ووقف للوفد ولرابين بالمرصاد. قلت له في تلك الفترة: “أخ أبو عمار، لماذا لا نترك وفد الداخل يتوصل الى اتفاق ونكسب ما يحققه، ونتابع المفاوضات باسم المنظمة ونقبض ثانية”. قال “لا، هذا خطأ خطره كبير، أنت تتحدث ببراءة، إذا وقّع وفد الداخل الاتفاق يعتمدهم الأمريكان بديلا عن المنظمة ونخرج من المولد من دون حمص”.
بعدها تقدم بيريز وطاقم الخارجية بقيادة بيلين باتجاه جس نبض المنظمة. وعندما التقطت السنارة طرف الخيط في أوسلو برع عرفات في المناورة ودفع الوفد في واشنطن لمزيد من التطرف وأقنع الجانب الإسرائيلي أن طريق اوسلو وليس واشنطن هو الموصل للسلام. ولم يكتف بما كان ينقله أبو مازن وأبو علاء حول ما يدور في مفاوضات أوسلو السرية، ولم يكتف باستلام نسخة عن محاضر الاجتماعات، وأرسل الى أوسلو مندوبا خاصا كلفه نقل تفاصيل ما يقوله الجميع دون استثناء، ونقل رسائل غير مباشرة للطرف الآخر تؤكد دور عرفات وكونه صاحب القرار الأول والأخير.
وإذا كان أبو مازن وأبو علاء هندسا اتفاق أوسلو فالصحيح أيضا أن عرفات لعب دور كبير المهندسين وكانا يعودان إليه في كل صغيرة وكبيرة. وهو المسئول عن سلبيات وإيجابيات الاتفاق وما تلاه من اتفاقات. وفرح عرفات كثيرا عندما انتزع انسحاب اسرائيل من أريحا بجانب غزة، واتهم خلية أوسلو بسوء التقدير وقال: “عندما تمسكت بالانسحاب من أريحا بجانب غزة ضحكتم وقلتم أبوعمار يريد تعقيد الأمور”. وبعد انجاز الاتفاق قال: “بهذا القلم سيتم التوقيع وإلا لا اتفاق”. ورفع قلمه الأحمر وقال: “توقيع هذا القلم يعني دولة وتوقيع سواه يعني الله أعلم”! وعندما حان وقت التوقيع أصر على الذهاب إلى واشنطن للمشاركة في الاحتفال. ونجح في تعديل البرنامج وكرست مصافحته التاريخية مع رابين في واشنطن دوره الشخصي وغاب عن خشبة المسرح رموز مفاوضات واشنطن وظهروا للناس على أنهم المخدوع الاكبر واقتصر دورهم على ما يقوم به الكومبارس الجيد الذي ينافس بعض الاحيان الممثلين الحقيقيين.
بعد العودة للوطن قاد السلطة بعقلية الثورة
قبل السفر إلى واشنطن لم يأبه عرفات بالمعارضة ولم تهزه استقالات أعضاء اللجنة التنفيذية باستثناء استقالة محمود درويش. يومها حزن كثيرا لاستقالته وشعر أن محمود خذله “وقت الزنقة”. كان أبو عمار بجاجة للشاعر الرمز ليستقوي به وبرصيده الوطني، وراح يبحث عنه في كل مكان بأمل النجاح في استثارة شهامته ونخوته الفلسطينية في مواجهة خصوم اتفاق أوسلو من فلسطينيين وعرب. لكن محمود توارى عن الأنظار وتمسك باستقالته، وآثر تغليب قناعته الفكرية على علاقته الحميمة مع عرفات ومع بقية صنّاع أوسلو وأنصاره. ولاحقا شارك محمود في اجتماع التنفيذية والقيادة الفلسطينية وطرح رأيه في الاتفاق وتمسك بقناعته، وأشار إلى حق أبو عمار وأنصار أوسلو في أن يحاولوا ويجربوا شريطة ألا يحرموا الآخرين من ممارسة حقهم وقول رأيهم. وتنبأ محمود باصطدام اتفاق أوسلو وآمال الواقعيين الفلسطينيين وجميع عربات قطار السلام بألغام الفكر الصهيوني العنصري التوسعي.
وبعد عودة عرفات من البيت الابيض زاد تفرده بالقرار ولم يعد يكترث بالهيئات القيادية وأصبحت تنفيذية المنظمة ومركزية فتح لا تعني شيئاً سوى الحفاظ على شكليات الشرعية. وراح يعمل بمفرده وأمسك بخيوط التفاوض واعتقد أن السلام بات يطرق الأبواب، وقدّر أن الاتفاق نتيجة تلاقي مصالح قوى إقليمية ودولية وهذا يشكل ضمانة لتنفيذه. لكن هذا الاعتقاد سرعان ما تبدد بعد التماس الأول مع الجانب الإسرائيلي وبعد مقولة رابين الشهيرة “لا تواريخ مقدسة في الاتفاقات مع الفلسطينيين”. في حينه لم يصمت عرفات وأثار في القاهرة زوبعة كبيرة ورفض يوم 4 ايار/مايو 1994 توقيع “بروتوكولات تنفيذ اتفاق أوسلو “. والكل يتذكر الإشكال الذي أثاره أمام عدسات التلفزيون بسبب عدم إنجاز الخرائط العسكرية التي تبين مساحة أريحا وحدود منطقة المواصي في قطاع غزة. ولاحقا تجاوب عرفات مع الضغط المصري والامريكي وقفز عن الخرائط ومساحة الأراضي المحررة في أريحا ومنطقة المواصي في غزة، ولم يوضح موقفه للناس.
وفي سياق تنظيم الوضع القيادي تمهيدا للعودة للوطن أصر عرفات على المزج بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة. وتعمد خلط مهام السلطة بمهام التنفيذية وقاد السلطة بعقلية الثورة. وهذا الخلط أبقى مهام وطنية كبرى مهملة، وأدخل علاقة السلطة بالمنظمة في اشكالية وحالة تعارض لم تحل للآن.
وبعد اغتيال رابين يوم 5/11/1995 على يد متطرف إسرائيلي وصف عرفات العملية بالانقلاب ضد السلام. ولم تتوقف نكسة عملية السلام عند اغتيال رابين وقرأ عرفات بدقة فشل بيريز وفوز نتنياهو في الانتخابات عام 1996 وقال: “نتائج الانتخابات تؤكد أن المجتمع الاسرائيلي غير ناضج للسلام العادل”. وزاد في الطين بلة رفض نتنياهو اللقاء مع عرفات ورفض تحديد موعد لاستئناف المفاوضات. واستنتج عرفات أن العالم لن يتحرك إذا لم يتحرك أصحاب القضية للضغط. وشرع بتحريض مباشر للجمهور الفلسطيني، ودعا يوم 29/8/1996 من على منصة المجلس التشريعي للاضراب العام. ثم توجه إلى نابلس والتقى في مخيم بلاطة ممثلي المخيمات في المحافظة. وزار المدارس وحرض على التحرك ضد الاستيطان. وقال: “إسرائيل تريد تغيير معالم المدينة المقدسة مسرى النبي ومهد المسيح وتقرير مصيرها”.
واستغل عرفات قيام نتنياهو ورئيس بلدية القدس اولمرت بفتح “النفق” تحت الاقصى يوم 24/9 /1996، وأوعز لتنظيم فتح وأجهزة الأمن بالتحرك. والتدقيق في مجريات ما اصطلح على تسميته “معركة النفق” يبين أنها لم تكن حركة عفوية وقعت كرد فعل شعبي على المس بالمقدسات، بل كانت حركة عنيفة أرادها عرفات، وكان هدفه إلزام نتياهو والليكود بعملية السلام وتنفيذ الاتفاقات واحترام الشريك الفلسطيني.
لاحقا تجاوب نتنياهو مع الرغبة الأمريكية ونجحت الجهود في إيصال المنظمة والحكومة الإسرائيلية للاعلان يوم 15/1/1997 عن اتفاق “بروتوكول تنفيذ إعادة الانتشار في الخليل وبقية مناطق الضفة” وواجه الاتفاق معارضة قوية في إسرائيل ونزل المستوطنون للشوارع واتهموا نتنياهو بالتخاذل.
الى ذلك أراد الرئيس بيل كلينتون إظهار تصميمه على إنجاح عملية السلام وقرر زيارة تل أبيب وغزة وتجنب الإحراج واستعاض عن زيارة الأماكن المقدسة في القدس بزيارتها في بيت لحم. وحطت طائرته يوم 12 كانون الاول 1998 في مطار غزة رغم الزوبعة الإسرائيلية. واستقبله عرفات مزهوا بهذا الإنجاز، وحل كلينتون ضيفا على السلطة وألقى كلمة أمام المجلسين الوطني والتشريعي. وانتعش عرفات ليس فقط بسبب مدلولات وأبعاد زيارة كلينتون الايجابية بل وأيضا حديثه الصريح ضد نتنياهو وسبل إسقاط حكومته.
لاحقا لم يستطع نتنياهو الصمود في وجه الضغوط وذهب الى انتخابات مبكرة في أيار 1999. وبعد ظهور نتائج الانتخابات وانتقال السلطة من الليكود إلى العمل في أيار1999 عادت الروح لعملية السلام. وملأ باراك أجواء المنطقة بضجيج عال حول إعادة تشغيل قطار السلام على مساراته الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني. وشكك عرفات بقدرة باراك التوصل إلى حلين سياسيين مع القيادتين السورية والفلسطينية في وقت واحد وحل قضايا الحل النهائي الشائكة.
وعندما استؤنفت المفاوضات يوم 29 تموز 1999، دخل المفاوضون الفلسطينيون غرف المفاوضات وهم حذرون، يحملون تعليمات عرفات وخلاصتها: رفض دمج “المرحلة الانتقالية” بـ”المرحلة النهائية”. والتمسك بالاتفاق أولا على تنفيذ استحقاق “المرحلة الثالثة ” كما ورد في اتفاق أوسلو قبل بحث قضايا الحل النهائي. والإصرار على تنفيذ اتفاق “واي ريفر”. وبعد مفاوضات شاقة نجحت وزيرة خاجية الولايات المتحدة مادلين اولبرايت في دفع الفلسطينيين والإسرائيليين، يوم 4/9/1999، الى الاتفاق ووقع باراك وأبوعمار في شرم الشيخ بروتوكول” تنفيذ بروتوكول واي ريفر” وشهد عليه بالاضافة للوزيرة اولبرايت كل من الرئيس مبارك وملك الأردن عبد الله الثاني. ورضخ أبو عمار مكرهاً للابتزاز الأمريكي وأجل إعلان الدولة عاما كاملا، ووافق على دخول مفاوضات حول “اتفاق إطار إعلان مبادئ الحل النهائي” قبل التزام إسرائيل وقف الاستيطان وقفا نهائيا، وقبل التفسير التبسيطي من اركانه لنتائج هذا التراجع.
في تلك الفترة أكثر بارك من الحديث حول الانسحاب من الجولان وارتفعت حدة التنافس بين المسارين الفلسطيني والسوري. وبعد الجولة الثانية من المفاوضات السورية الإسرائيلية التي عقدت في “شبردزتاون” مطلع كانون الثاني 2001، إزداد شك عرفات بنوايا باراك ونوايا الإدارة الأمريكية وتأزمت العلاقات خاصة بعد تصريح كلينتون القائل بأن الطرفين السوري والإسرائيلي تعهدا بتسوية خلافاتهما في غضون شهرين.
ومع اقتراب استحقاق موعد إعلان الدولة تأزمت العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وأطلق باراك تصريحات عنجهية هدد فيها بضم الأراضي الفلسطينية الخاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية إذا أعلن الفلسطينيون الدولة من جانب واحد. وفي نيسان 2000، وجه الرئيس كلينتون دعوة إلى أبو عمار لزيارة واشنطن بأمل تأجيل استحقاق إعلان الدولة، ووافق عرفات على التأجيل.
في كامب ديفيد دعا أبو عمار الرئيس الأمريكي للسير في جنازته
أواخر حزيران /يونيو2000 نقلت الوزيرة اولبرايت للطرفين رغبة كلينتون في عقد قمة ثلاثية للبحث في حل جميع القضايا. ورفضت الاستماع لنصائح عرفات بتأجيل القمة ريثما يتم إنجاز التحضيرات الضرورية لضمان نجاحها. وأسرع كلينتون وحدد 11تموز/ يوليو2000 موعدا للقمة. ولم يكن بمقدور عرفات تحمل تبعات مواجهة مكشوفة مع رئيس أقوى دولة في العالم ولم يشأ توتير العلاقة حول مسالة زمان ومكان القمة. وحاول قبل سفره التسلح بموقف عربي بشأن قضيتي القدس واللاجئين باعتبارهما قضيتان يتداخل فيهما الشأن الفلسطيني بالقومي لكن محاولته باءت بالفشل. وقبل سفره إلى واشنطن دعا أبوعمار المجلس المركزي إلى الاجتماع يوم 2 تموز2000 وخاطب المجتمعين قائلاً: “نحن ذاهبون إلى معركة قاسية وسأخوض أنا وإخواني المعركة باسمكم”. وقلل من احتمال النجاح وأكد أنه لن يحيد عن الحقوق، وقال: “لا عرفات ولا أي زعيم فلسطيني أو عربي يمكنه التنازل عن الحقوق في القدس، وحق اللاجئين في العودة والتعويض التي ثبتتها قرارات الشرعية الدولية”. وأكد المجلس المركزي على التمسك بالثوابت الوطنية.
وبعد استلام الموافقة الفلسطينية، اعتقد كلينتون أن حالة الضعف التي تعانيها م. ت. ف. والسلطة تفرض على عرفات قبول ما يعرضه باراك. وظن أركانه أنه مستعد لدفع ثمن رغبته الجامحة في إعلان الدولة. وفي اليوم الأول للقمة عقد كلينتون لقاء ثانيا مع عرفات تحدث فيه عن الفرصة التاريخية السانحة لحل قضايا النزاع كافة باستثناء القدس. وأجابه عرفات أنا قادم من مؤتمر القمة الأفريقية في توغو وهناك ألقيت خطابا، وكلما ذكرت القدس الشريف كانت القاعة كلها تصفق. وفي أول لقاء للرؤساء الثلاث تم تثبيت إطار المحادثات وآلية المفاوضات وقواعدها، وتم تثبيت قاعدة “الاتفاق على كل شيء أو لا اتفاق”. وعند البحث في صلب قضايا النزاع بدأت رياح الخلافات القوية تهب على كامب ديفيد.
في المحادثات الثنائية والثلاثية في “الكامب”، لاحظ عرفات أن الأفكار والمواقف الأمريكية الإسرائيلية دوما متقاربة ومتجانسة وكثيرا ما كانت متطابقة، الأمر الذي أثار حفيظته وزاد في حذره من الموقف الأمريكي ورفع سقف مطالبه وتسلح بالحق الفلسطيني الواضح والشرعية الدولية ونصوص الاتفاقات الموقعة بين الطرفين. وتبنى أبوعمار موقفا متشددا بشأن القدس واللاجئين والحدود والاستيطان، وتمسك بالحد الأقصى وتكتم حول الحد الأدنى ولم يصرح به لأي من أعضاء الوفد الفلسطيني.
وبعد أسبوع من المفاوضات الشاقة تبددت من سماء كامب ديفيد غيوم الأمل بالتوصل إلى اتفاق. ورفع كلينتون وتيرة ضغطه على عرفات وتجاوز المألوف في الأعراف الدبلوماسية. وصمد أبو عمار في وجه كلينتون ورفض أطروحة الجانب الإسرائيلي، ولم يخرج عن الأعراف الدبلوماسية، وذكّر كلينتون أكثر من مرة بالالتزامات الأمريكية بشأن قضيتي القدس واللاجئين وتعهداته التي قطعها على نفسه ولم تنفذ. ورفض عرفات التوقيع على أي اتفاق ينص على إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ولا يتضمن حل قضيتي القدس واللاجئين وفق القرارات الشرعية الدولية الخاصة بهما. وأبدى استعدادا أوليا لقبول مبدأ مدينة مفتوحة وحرية عبادة للجميع وسيادة إسرائيلية على حائط المبكى، شريطة أن تكون السيادة الفلسطينية كاملة غير منقوصة على الجزء المحتل من المدينة منذ العام 1967.
لاحقا توتر كلينتون وروي انه قال لعرفات “خيبت آمالي وحطمت كل ما قمت به خلال ثماني سنوات في عملية السلام… أنتم فقدتم فرصة عام 1948 وحرمتم من فرصة في العام 1978 والآن تخسرون فرصة جديدة. أنت تتحمل المسئولية وأنا اعرف حجم الكارثة التي ستحدث وستمر عشرون سنة قبل أن تأتي فرصة أخرى وتكلم جورج تنيت، مدير المخابرات المركزية، بأسلوب ابتزازي وحمل أبوعمار المسئولية وقال: “أنت تحكم على الدولة الفلسطينية بالانتهاء وتحكم باندثار الاقتصاد وتشتت الشعب، أنتم تعيشون في منطقة أحب أن أقول لك أن شعوبها وحدودها قابلة تماما للتغيير والتبديل”.
رد أبو عمار وشكر الرئيس كلينتون ومعاونيه وأكد انه لن يقبل لنفسه دخول التاريخ كأحد الخونة.”لا أنا ولا أي عربي ولا مسلم ولا مسيحي يقبل أن يشرّع وجود السيادة الإسرائيلية في القدس”. ويستطيع الإسرائيليون مواصلة الاحتلال بقوة السلاح سنوات ولهم في جنوب أفريقيا مثلا، واذا كنا ضعاف الآن فبعد عشرة أو عشرين أو خمسين أو مائة عام سيأتي من يحرر القدس ويرفع علم بلاده عليها. وشهد أكثر من راوي أنه قال” “إذا أردتم التهديد فأنا أدعوكم للسير في جنازتي، أنا رجل متدين ولن أسمح أن يكتب عني إنني ناقشت بيع ساحة الحرم لإسرائيل أو الإقرار بوجود هيكل مزعوم تحته. تحدثت معكم بقلب مفتوح ولكن يبدو أن الإسرائيليين بعيدون عن السلام، أعان الله الأجيال القادمة على ما سيحدث في المنطقة”.
بعد تمسك أبو عمار بالحقوق ورفضه التجاوب مع توجهات كلينتون بدأت ملامح انهيار القمة تلوح في الأفق. وتأكد كلينتون أن موقف عرفات نهائي، وكرر مقترحاته لحل الخلافات وأشار إلى ان باراك قدم تنازلات وموقف عرفات لم يتحرك. “أنت لم تفاوض، اذهب ودع شعبك يستقبلك كالأبطال”، عقب عرفات بانه لن يتخلى عن القدس عاصمة بلده. ورد كلينتون هذه المواقف سوف يكون لها عواقب وخيمة وأنت تتحمل المسئولية. واجاب أبو عمار: “أريد أن اختصر عليك لنبق تحت الاحتلال ونحن نعرف كيف نقاوم، نحن شعب لا يخون الأمانة أنا أفاوض باسم العرب المسلمين والمسيحيين. وهل تقبل مني يا سيادة الرئيس أن أبيع الأماكن المسيحية إلى الإسرائيليين؟” قال كلينتون: “هذه سياسة وليس دين”.
ورغم الضغوط الهائلة أصر عرفات على موقفه وحذر من تحويل الصراع إلى حرب دينية. وطلب من مرافقيه تجهيز أنفسهم لمغادرة الأراضي الأمريكية باتجاه مطار غزة. وحاول كلينتون إنقاذ القمة من الانهيار وقدم في الليلة الأخيرة خيارات جديدة رفضها عرفات وحسم كلينتون أمره وأعلن يوم 24 تموز/ يوليو2000 في مؤتمر صحفي انتهاء أعمال القمة دون اتفاق. ووقع المحظور الذي خشيه عرفات ورفض كلينتون الاعتراف بالفشل وامتدح شجاعة باراك وأثنى على جرأته. ولاحقا وصف أبو عمار مفاوضات “الكامب” بأنها كانت اصعب من حرب بيروت عام 1982.
بعد فشل القمة عاد عرفات إلى غزة واستقبله الغزاويون استقبال الفاتحين واعتبروا صموده انتصارا عظيما وعندما انتقل إلى رام الـه نظم له استقبال رسمي وشعبي كبير. وألقى كلمة حماسية وقال: “عندما كنت في كامب ديفيد كانت صورتكم في ذهني، وكانت إرادتكم الصلبة أكبر معين لي للصمود في مواجهة الضغوط الكبيرة التي تعرضت وأخوتكم في الوفد المفاوض لها. بعزيمتكم صمدنا وبعزيمتك سنواصل المشوار”.
بعد فشل قمة كامب ديفيد تأكد أطراف المعارضة أن تساهل أبوعمار كما ظهر في قضايا الحل الانتقالي لا ينطبق إطلاقا على موقفه بشأن قضايا الحل النهائي. وهيجت تصريحات كلينتون مشاعر الفلسطينيين خاصة بعد نشر تفاصيل أطماع إسرائيل في الأقصى والسعي لتقسيمه على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل. واهتم أبو عمار بامتصاص غضب كلينتون وتخفيف الآثار السلبية لفشل القمة. وراح يعمل على توحيد الموقف الفلسطيني وحشد المواقف العربية لمواجهة أسوأ الاحتمالات. وفي اجتماعات المجلس المركزي تحدث عن صدام قادم حتما وقال: “يا إخوان، الصدام قادم لا محالة وباراك أعطى أوامره لتنفيذ “خطة حقل الأشواك”. وبالرغم من شكوكه في نوايا باراك طلب أبو عمار من المجلس تأجيل إعلان قيام الدولة خمسة أسابيع استجابة لتمنيات الرئيس كلينتون. وقال: “أرجو موافقتكم على التأجيل استجابة لطلب شخصي طلبه مني الرئيس كلينتون على هامش أعمال قمة الألفية الثالثة التي دعت إليها الأمم المتحدة”. ورفض المجلس بناء على تدخل عرفات التهديدات الإسرائيلية وقرر “اتخاذ الخطوات اللازمة لتحضير الشعب لمواجهة أسوأ الاحتمالات”.ودخل الطرفان صراع إرادات وباتت كل الاحتمالات واردة ولم يحاول عرفات تفادي المواجهة.
الانتفاضة: باراك قرر المواجهة وأبو عمار قبل التحدي
صباح الخميس 28/9/2000، قام شارون بزيارة ساحات المسجد الاقصى ووضعت الأذرع الأمنية الإسرائيلية في حالة تأهب وتم حشد قرابة ألفي رجل أمن وشرطة داخل وخارج الأقصى لحمايته وقمع من يحاول تعكير الأجواء. وفجرت الزيارة غضب الفلسطينيين ونزل الناس للشوارع وتصدوا لجند الاحتلال بالحجارة وبالرصاص أيضا. أطلق البعض على الحركة “هبة الأقصى”. وفي اليوم التالي تفجر على أرض الأقصى عقب صلاة الجمعة يأس الناس وكرههم للاحتلال واتسمت حركتهم بالقوة والعنف.
في المساء دعا أبو عمار القيادة إلى اجتماع طارئ قال فيه: “باراك بدأ بتنفيذ خطة حقل الأشواك التي حدثتكم عنها، معركة القدس فتحت في كامب ديفيد وزيارة شارون نقلتها إلى هنا. طلبت من باراك في منزله بحضور أبو مازن وأبو علاء إلغاء الزيارة لكنه رفض. القدس في خطر والأقصى في خطر، واللهم أشهد فإني قد بلغت..”.وعقب الاجتماع صدر بيان دققه عرفات حمّل الحكومة الإسرائيلية ورئيسها مسئولية الزيارة وتدنيس المسجد الاقصى، ودعا البيان الشعب في كل مكان إلى “رص الصفوف والتوحد في معركة الدفاع القدس ومواجهة العدوان الإسرائيلي المبيت على المقدسات”.
بعد اجتماع القيادة السياسية ترأس عرفات في ساعة متأخرة اجتماعا للمتواجدين من أعضاء مجلس الأمن القومي الأعلى. وقدّر أن المعركة طويلة. وركز على موقع الأقصى في فكر الناس. واعتبر زيارة شارون قرارا خاطئا ارتكبه باراك وينم عن غرورة وغباء سياسي. ورأى فيها محاولة استدراج للدخول في صدام عنيف. وقال “قدرنا الدفاع عن مقدسات العرب ولا يمكن للمرء أن يهرب من قدره”. واستشهد بحديث نبوي يقول “الناس في بيت المقدس وحول بيت المقدس مرابطون إلى يوم الدين..”.
وبحث المجلس سبل حماية الأقصى ولخص ابوعمار التوجه: العمل على تفريغ أعداد إضافية إلى ملاك حراس المسجد. تنظيم مناوبات أمنية ليلية في المسجد. الدفاع عن مناطق السلطة في المحافظات ومنع القوات الإسرائيلية من اختراقها. وحاول أعضاء المجلس إثارة المخاوف من دور حماس والتيار الديني ومحاولة تصدر الحركة، لكن عرفات اقفل الموضوع وقال: المعركة طويلة والمسألة الملحة هي كيف نحمي الأقصى وليس من يتصدر التحركات. وبعد تصاعد حدة الاشتباكات بين الطرفين تحركت الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وشددت ضغطها على عرفات وألحت عليه لعقد لقاء مع باراك. ودخلت الحكومة الفرنسية على الخط وأجرى الرئيس شيراك اتصالات مكثفة مع الرئيس الأمريكي، وعبر عن قلقه علنا وقال: “يجب أن يعلم الجميع أن مشاعر شعب لا يواجه بالمدرعات”.
وفي يوم 4/10/2000 عقدت قمة في باريس شارك فيها باراك وعرفات ووزيرة الخارجية الأمريكية اولبرايت. وحاول باراك بالتواطؤ مع اولبرايت تعطيل مشاركة أمين عام الأمم المتحدة والرئيس الفرنسي إلا أن إصرار عرفات على مشاركتهما أحرج باراك واولبرايت وعقدت اللقاءات بحضورهما. وعملت اولبرايت على تمييع طلب عرفات تشكيل لجنة تحقيق دولية في مجزرة الأقصى، واقترحت تشكيل لجنة أمريكية فلسطينية إسرائيلية تترأسها الولايات المتحدة. ورفض أبو عمار اقتراحها وهدد بالانسحاب من الاجتماعات وانسحب من أحدها ولم يعد إليها إلا بعدما أمسكت به اولبرايت عند باب سيارته..
وتضامن الرئيس شيراك مع الشعب الفلسطيني وساند طلب عرفات تشكيل لجنة تحقيق وتوفير حماية دولية للفلسطينيين. وفشل اجتماع باريس، وتوترت علاقة عرفات بباراك اكثر وعاد إلى غزة وسجل مرة أخرى تمسكه بالحقوق الفلسطينية حتى لو أدى ذلك إلى تصادم مع الإدارة الأمريكية. وثبت بالملموس للمعارضة أن بالإمكان الجمع بين الحركة السياسية والدبلوماسية وتواصل الانتفاضة، وبسط عرفات نتيجة التصادم..
ورغم أن السلطة لم تشارك رسميا في قيادة الانتفاضة، إلا أنها مثلت مرجعيتها العليا. ولم يحاول أبو عمار تبديد هذه الصورة ولم يحاول وقف عسكرة الانتفاضة بل رأى فيها أداة ضغط.. ولم يعترض على بيان فتح الذي اعتبر “الانتفاضة خيار استراتيجي للتحرير”، و”يجب نقل المعركة إلى مكان تواجد العدو لكي لا ينعم الصهاينة بالاستقرار..ويجب استهداف العدو داخل “ما يسمى بالخط الأخضر” وكل ما هو “صهيوني” سيكون هدفا مشروعا لنا بكل الوسائل”. وردت اسرائيل بتأكيد أن “أذرع الأمن الإسرائيلية ستضرب من يمس بأمن إسرائيل” وطالبت عرفات تحمل مسئولياته إزاء هذا التوجه الخطير، ولم يأبه عرفات لهذه اللتهديدات.
وفي سياق معالجة الموقف المتفجر سعى الرئيس كلينتون إلى عقد قمة جديدة يحضرها شخصيا تضم باراك وعرفات. وفي سياق تسويق الفكرة أوعز كلينتون للمندوب الأمريكي في مجلس الأمن بتمرير مشروع قرار خاص بتشكيل لجنة تحقيق بالاحداث. وصدر قرار مجلس الأمن رقم 1322 واسند مرجعية اللجنة للرئيس الأمريكي وأمين عام الأمم المتحدة. وتحول التفويض من تحقيق إلى تدقيق بالاحداث وترفع اللجنة تقريرها للرئيس كلينتون ووافق أبو عمار على هذه التخريجة الدبلوماسية.
بعد صدور قرار مجلس الأمن رفعت الإدارة الأمريكية وتيرة ضغطها وألح كلينتون على عقد القمة في الأراضي المصرية، وفضل أبوعمار تأجيلها إلى ما بعد القمة العربية. إلا أن كلينتون أصر على موقفه وحدد يوم 16/10/2000 موعدا لانعقادها في شرم الشيخ، وانتزع أبو عمار موافقة على مشاركة أمين عام الأمم المتحدة ومندوب عن المجموعة الأوروبية إضافة لمصر والأردن. وعقد الزعماء لقاءات ثنائية وثلاثية سادها توتر شديد. ومارس كلينتون ضغوطا على عرفات وصمد أبوعمار وفشل كلينتون في حل قضايا الخلاف وأنهى القمة ببيان أمريكي تضمن دعوة الطرفين للتهدئة وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 29/9/2000. وكان واضحا للجميع استحالة تنفيذ ذلك دون وجود طرف ثالث يفصل بين الطرفين.
وتفرق الرؤساء بعد قمة الشرم وعاد كل إلى بلده ولا أحد يعرف كيف ستتطور الأوضاع. وتعززت ثقة الشارع بموقف أبو عمار أكثر وعاد إلى غزة مزهوا بصموده في وجه الضغوط الأمريكية الإسرائيلية مرة ثانية. ولم يتوقف عرفات واركان القيادة مطولا عند نتائج تدهور العلاقة مع كلينتون وأركانه. وبدأت الاستعدادات الفلسطينية للقمة العربية. واتهم باراك عرفات بإعطاء الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية والتنظيم باستخدام السلاح، وتحول حزب السلطة “تنظيم فتح” إلى عدو إسرائيل رقم واحد. ولم يحاول عرفات وقيادة فتح والسلطة نفي التهمة، وتبرع البعض في تبريرها وتاكيدها.
وقبل توجهه إلى القاهرة عقد عرفات مساء 19/10/2000 اجتماعا ضم أعضاء التنفيذية ومجلس الوزراء. وصدر بيان اتهم الجانب الإسرائيلي “بعدم تنفيذ ما تعهد به..وهناك إصرار على مواصلة الاعتداءات”. وفي القمة بيّن أبو عمار بشاعة الاحتلال وقال: “لقد حاولت إسرائيل تصوير ما يجري من جرائم قتل جماعي كما لو أنه اشتباك بين عسكريين”. واستعرض نتائج الاجتماعات التي تمت في باريس وشرم الشيخ.
بالإجمال ساهمت قرارات القمة في تكريس مأزق عملية السلام، وتبنى الزعماء العرب رؤية الفلسطينيين ورفضوا اعتبار الانتفاضة أعمال عنف، وصارت قراراتهم المتعلقة بالقدس واللاجئين قيدا على القيادة والمفاوضين الفلسطينيين وهذا القيد العربي أراده ابوعمار وسعى له وحصل عليه. ظنا منه انه يؤثر في الموقف الأمريكي ويعزز موقفه في المفاوضات.
وعلى أبواب الانتخابات الأمريكية يوم 7/11/2000 تبارى المرشحان للرئاسة في إظهار الدعم والإسناد لإسرائيل.وأدانا “العنف والإرهاب الفلسطيني” وطالبا عرفات وقفهما. ورغم امتداح أبوعمار مواقف كلينتون إلا أن ناس الانتفاضة تمنوا لنائبه آل غور الفشل لاعتبارات عديدة أهمها تبنيه مواقف “ليكودية” متطرفة، ولم يكن موقف عرفات الحقيقي بعيدا عن موقف الناس. وتشجع باراك بالموقف الامريكي واتهم عرفات بزج أجهزة الأمن الفلسطينية في عمليات ضد الإسرائيليين. واصدر أوامر للجيش بتنفيذ المرحلة الثالثة من خطة “حقل الأشواك”، وتفعيل “مكابس الضغط” الاقتصادي والسياسي على الفلسطينيين حتى ينخفض سقف العنف، كما قال. وأصدر أوامره بقصف مراكز أجهزة الأمن الفلسطينية برا وبحرا وجوا، وكانت النتيجة عكس ما توقعه. وتعززت الاتجاهات الفلسطينية المتطرفة، وتحرك الناس وشكلوا دروعا بشرية لحماية المراكز. واستأذن قادة الاجهزة عرفات وفتحوا أبواب السجون للسجناء الأمنيين وكان ضمنهم كوادر من كتائب القسام، وتطورت أشكال عسكرة الانتفاضة وتورطت السلطة في مستنقع العمل العسكري أكثر فأكثر.
ومع تزايد المواجهة وارتفاع عدد القتلى في صفوف الإسرائيليين رفعت قوى اليمين الإسرائيلي وتيرة ضغطها على باراك. وعلى خلفية فشله في مواجهة الانتفاضة وحماية الإسرائيليين، صوت الكنيست يوم 28/11/2000 لصالح اقتراح يدعو إلى انتخابات برلمانية مبكرة. في حينه شجع عرفات أعضاء الكنيست العرب على التصويت إلى جانب الاقتراح وصوتوا دون تردد نكاية بباراك المسئول عن قتل إخوانهم. ولم تفكر القيادة الفلسطينية واعضاء الكنيست العرب بنتائج فوز شارون في الانتخابات عليهم اجمعين.
مطلع كانون الأول/ يناير2000 أيقن باراك أن الذهاب إلى انتخابات مبكرة بات شراً لابد منه. وأكدت استطلاعات الرأي الخاصة أن عدم التوصل إلى اتفاق مع عرفات حول قضايا السلام يفقده نسبة كبيرة من أصوات العرب وأنصار السلام. ورفضت “قيادة الانتفاضة” الدخول في متاهة تحديد أيهما افضل شارون أو باراك. وقلل عرفات من شأن فوز شارون وقدّر أن حكمه لن يدوم أكثر من حكم باراك…
على أبواب الانتخابات اعتقد أركان حزب العمل وقادة اليسار في إسرائيل أن التوصل إلى اتفاق جديد مع عرفات هو السبيل الوحيد لتخليص باراك من تخبطه. وتحت ضغط قادة الحزب تحدث باراك عن إمكانية عقد اتفاق انتقالي مع السلطة، يقوم على تـأجيل قضيتي القدس واللاجئين مقابل تأجيل إنهاء النزاع. ورفض عرفات العرض ولم تسمع القيادة الأصوات التي اعتبرت الاقتراح خطوة تقرب الشعب من حقوقه وتحسن الموقف في المفاوضات. واعتبر تأجيل قضيتي القدس واللاجئين يتسبب بضياع الحقوق فيهما. ونسي الجميع أن نصف قرن من الزمن لم ينجح في شطب هذه الحقوق.
وتحركت الإدارة الأمريكية وعدد من دول الاتحاد الأوروبي على أبواب الانتخابات الإسرائيلية لنجدة باراك، وطالب زعماؤها عرفات وقف الانتفاضة وأنقاذ باراك ومنع شارون من تولي دفة الحكم..الخ. ولم يسمع أبو عمار النصائح واستصغر شان التطورات في إسرائيل.وبعد إلحاح شديد من كلينتون وافق أبوعمار على استئناف المفاوضات في واشنطن وعقد العزم على الصمود من جديد وتكرار تجربة كامب ديفيد.
يوم 19/12/2000 استأنفت المفاوضات في واشنطن على مستوى الوزراء. وبعد مفاوضات سادتها روح إيجابية، كما قيل، أعلن انتهاء المفاوضات بسبب عطلة الأعياد. وقبل مغادرة الوفدين دعاهما الرئيس كلينتون يوم 23/12/2000 إلى لقاء تلا فيه أفكاره لحل النزاع، بما عرف لاحقا “بأفكار كلينتون”، لخص فيها مفاوضات الطرفين حول سبل إنهاء النزاع، وبخاصة ما تم في قمة الكامب. وقدم كلينتون أفكاره للوفدين بطريقة دراماتيكية حسب رواية الوفد وتلا أفكاره في جو حزين وكئيب ورفض نقاشها. وقال “هذه هي أفكاري إذا لم تقبل فإنها لن تزال عن الطاولة فحسب وإنما تذهب معي أيضا عندما أترك منصبي”.
في حينه لم تتأخر الحكومة الإسرائيلية في الرد إيجابا على المبادرة. وناقشتها القيادة الفلسطينية وتباينت وجهات النظر حولها. واستغرب أبوعمار عدم طرح كلينتون مبادرته في قمة الكامب الثلاثية وآثر تأجيل الرد عليها. وكان موقفه أميل إلى الرفض وأن يقدم الرد بصيغة “نعم ولكن”. بعد أعياد الميلاد وظفت إدارة كلينتون شبكة علاقاتها الدولية للضغط على عرفات للرد على “المبادرة ” بالإيجاب وخفض وتيرة “العنف”، والعودة للمفاوضات بهدف التوصل إلى “إعلان مبادئ”. وتلقى أبوعمار رسائل من زعماء العالم، حثته على عدم إضاعة الفرصة واستغلال أفكار كلينتون. الى ذلك، نصحه زعماء عرب انتظار الإدارة الجديدة، وقالوا “التعامل مع ادارة مقبلة خير من التعامل مع مدبرة”. ووعدته القيادة السعودية خيراً بعد دخول الجمهوريين البيت الأبيض وتسلم جورج بوش الابن مقاليد الحكم في واشنطن، وقيل هذا ابن صديقنا..وراهن ابو عمار على الدور العربي في التاثير على الموقف الامريكي وعلى فعل الانتفاضة في المجتمع الاسرائيلي..
وبعد نقاش تفصيلي رأت تنفيذية المنظمة في “أفكار اكلينتون” إيجابيات لكنها اعتبرتها بالإجمال منحازة لمواقف إسرائيل ولا تقدم علاجا للنزاع وتجحف بحقوق الفلسطينيين. وبعد الأعياد حسم عرفات الموقف وأرسلت القيادة ردا باسم المنظمة حمل عنوان “ملاحظات وأسئلة حول الأفكار الأمريكية”. تضمن قراءة تفصيلية للأفكار بينت نواقصها وثغراتها، وأكد في فقرته الأخيرة تمسك قيادة المنظمة بحل النزاع بالطرق السلمية ورفضت المبادرة بصورة فجة وغابت لغة اللعم التي تميز بها عرفات. وبسط أبو عمار وأركان القيادة رد الفعل المحتل، وتعمد تسريب الرد لقوى المعارضة لتأكيد صلابة الموقف.
يوم 20/كانون الثاني 2001 رحل كلينتون عن البيت الأبيض ولم يحقق طموحه بنيل جائزة نوبل لصنع السلام، وترك وصية قاسية ضد عرفات ونصح بعدم التعامل معه وعدم إدخاله عتبات البيت الابيض. ولم يكترث عرفات وأركانه بالوصية وراهنوا على التأثير في موقف الرئيس بوش ابن صديق العرب..
ومع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية واستمرار تفوق شارون على باراك حسب استطلاعات الرأي، حرّك باراك شمعون بيريز. وعقد بيريز لقاءا ثنائيا مع أبوعمار خرج منه متفائلا. وقال إن بالإمكان التوصل إلى اتفاق حول القضايا العالقة رغم ضيق الوقت. وكانت حصيلة الاتصالات موافقة عرفات على عقد جولة مباحثات في منتجع طابا دون شروط. ووافق باراك على استئناف المفاوضات مع “استمرار العنف”. وكان واضحا أن المطروح استكمال مفاوضات الكامب و”أفكار” كلينتون ستشكل نقطة الانطلاق.
في منتجع طابا عقد الوفدان جولة ماراثونية من المفاوضات. ومنذ البداية طلب الوفد الإسرائيلي تقدير ظروف باراك وإصدار بيان يساعده في كسب الانتخابات. وأظهرت المناقشات أن ما طرحه كلينتون في قمة الكامب بشأن الدولة والأرض واللاجئين والاستيطان والحدود كان موافقاً عليه إسرائيليا. وحقق الوفدان تقدما، وطلب أبو عمار من وفده محاولة التوصل إلى اتفاق نهائي وإذا تعذر ذلك، لسبب وآخر، أن يتم صياغة محضر رسمي “ملخص موسع” يوقعه الطرفان. لكن الوفد الاسرائيلي آثر، بناء على تعليمات من باراك، تأجيل كل شيء إلى ما بعد الانتخابات. وحاول الجانب الفلسطيني توثيق مواقف الطرفين لكن الجانب الإسرائيلي رفض. ولم يتم من ناحية رسمية تحديد النقطة التي توقفت عندها المفاوضات باستثناء ما سجله كل طرف في ملفاته. واتفق الطرفان أن يعودا لاستكمال ما لم ينجز إذا فاز باراك.
وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعت باراك إلى إنهاء مفاوضات طابا دون وثيقة، فالطرفان تعرفا على الحد الأدنى والأعلى لكل منهما في قضايا الحل النهائي. وأكدت طابا ان أطروحة كلينتون ـ باراك في كامب ديفيد كانت أقل من اتفاق، وما طرح في طابا يوفر الحد الأدنى المطلوب لتوصل الطرفين إلى اتفاق شامل ونهائي ينهي نصف قرن من النزاع الدامي، لكنه طرح في وقت متأخر جدا. وبصرف النظر عن رأي كلينتون وبوش في دور عرفات في عملية السلام، يجب أن يسجل له أنه أصاب وكان محقا عندما رفض ما عرض في كامب ديفيد بشأن القدس والارض واللاجئين، وجاءت مبادرة كلينتون وأطروحة الطرف الاسرائيلي في طابا وأكدتا صحة تقديراته.
إلى ذلك أكدت وقائع الحياة ان تشجيع عسكرة الانتفاضة واندفاع البعض في عمليات انتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين عزز التطرف في الساحة الفلسطينية والحق أضرارا بالمصالح الفلسطينية العليا وسهل على شارون وصم النضال الفلسطيني بالارهاب. واظن مبالغة عرفات واركانه في تأثيرات الانتفاضة على الموقفين الاسرائيلي والدولي قادهم إلى تبني مواقف متشددة الحقت خسائر بالشعب الفلسطيني. وضيّعت القيادة فرصة تحسين الموقف الفلسطيني والتوصل إلى اتفاق “ناقص” حسب اقتراح باراك، يتم بموجبه الاتفاق على معظم القضايا الرئيسية وتأجيل قضيتي القدس واللاجئين ودون الالتزام بانهاء النزاع.
إلى ذلك، سيؤكد التاريخ صدق قول عرفات: “عقدنا اتفاق أوسلو وعدنا للوطن مقتنعين بصنع السلام، لكنا وجدنا مجتمعا اسرائيليا غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى أبعد من أنفها، تحاول شطب التاريخ وتحويل السلام الى استسلام”. وعندما حوصر في مقره في رام الله ولم يتحرك أحد لنجدته، قال: “أعرف أن الحصار سوف يطول وأنا أدفع ثمن موقفي في كامب ديفيد ورفضي الخضوع للإرادة الأمريكية والاستسلام للشروط الإسرائيلية. وأجزم أن حب عرفات للحياة لم يحد من استعداده للتضحية من أجل فلسطين وكان صادقا عندما قال في الحصار: “يريدونني طريدا أو أسيرا وأنا أريدها شهيدا شهيدا شهيدا.”
أعتقد أن التاريخ سوف يخلد ذكرى أبو عمار الرمز. ورغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن ان تسجل على أسلوبه الفردي في إدارة الحكم وموقفه السلبي من المؤسسات، فإن ألد اعدائه لا يمكنهم إنكار أنه نجح في إحياء القضية الفلسطينية ووحد شعبه تحت رايات منظمة التحرير وقاد ربعه نحو الاعتزاز بهويتهم الفلسطينية. وساهم في ايقاظ أمة من سباتها ونبهها إلى أخطار استراتيجية تحيق بها. وأظن أنه الوحيد الذي كان قادرا على خرق المحرمات وتحمل أعباء توقيع اتفاق حول قضايا الحل النهائي يتضمن تنازلات تاريخية، تماما كما تحمل في عام 1996 وزر قرار الغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني شبه المقدس عند كثير من الفلسطينيين، التي تدعو الى تدمير دولة اسرائيل. وأجزم أن القيادة الإسرائيلية ارتكبت خطأ استراتيجيا عندما لم تستثمر مرحلة عرفات في الوصول لحل نهائي للنزاع وسوف يدفع الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي وشعوب المنطقة ثمنا باهظا لهذا الخطأ الجسيم.
إلى ذلك يمكن القول أيضا أن استهتار عرفات والقيادة الفلسطينية بفوز شارون في الانتخابات، والاصرار على مواصلة اللعب في ملعب العمل العسكري حيث يتفوق شارون، والارتباك في التعامل مع احداث11 سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك وعدم استيعاب ابعاد اعلان الادارة الامريكية الحرب على الارهاب زادت في خسائر الفلسطينيين. وسهلت على شارون الصاق تهمة الارهاب بالنضال الفلسطيني العادل والمشروع، ودفع إدارة بوش الى اتخاذ موقف عدواني من القيادة الفلسطينية، وأغلقت أبواب البيت الأبيض في وجه عرفات. وحصل شارون على غطاء أمريكي لمواقفه المعادية للسلام. وطور أعمال القتل ووسع عمليات الاعتقال، ودمر أجهزة السلطة وفرض الاقامة الجبرية على عرفات بضع سنوات دون رادع.
الى ذلك كله، يبقى رحيل عرفات خسارة كبيرة لا تعوض لحقت بشعب فلسطين وبأنصار صنع السلام في المنطقة. وأشهد أن سيرة هذا الرجل لا يمكن تغطيتها ببضع مقالات، وقد تصدر يوما في مجلدات.
.