ما العمل بعد لقاء بوش خطبة الوداع لعملية السلام
بقلم ممدوح نوفل في 01/07/2002
أثار خطاب الرئيس بوش يوم 26 حزيران “يونيو” الماضي عاصفة قوية من ردود الفعل في الساحة السياسية الإقليمية والدولية لن تهدأ في وقت قريب. وامتاز خطابه بالصراحة والوضوح، ولا حاجة للاستيضاح. وما كان غامضا في الخطاب أوضحه في قمة الثماني في كندا، ولاحقا وضع وزير خارجيته “باول” ومستشارته لشئون الأمن القومي “كونداليزا رايس” النقاط على الحروف. ولم يتوقع أكثر الفلسطينيين تشاؤما بالموقف الأمريكي أن يصل هذه الدرجة العالية من الاستفزاز والعدوانية ضد الفلسطينيين سلطة وشعبا وحقوق. ويرقى لهذا المستوى من الدعم سياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف، والاستخفاف بمواقف الحكام واستفزازهم، والاستهتار بمصالح الشعوب العربية.
تجاهل بوش عن سابق قصد وإصرار المبادرة العربية التي رحب بها شخصيا. وقفز بوعي عن آراء الزعماء العرب الذين زاروا واشنطن وعقد معهم خلوات طويلة شكرهم بعدها على جهودهم وامتدح أفكارهم. خاطب سوريا بلغة الأوامر وقال؛ (عليها اختيار طريق محاربة الإرهاب بإغلاق معسكرات الإرهاب الإرهابيين وطردهم من أراضيها). صمت بوش على إعادة احتلال المدن الفلسطينية وأباح الاستيطان، وبارك جرائم الحرب الجارية على الأرض الفلسطينية واعتبر أعمال شارون دفاعا مشروعا عن النفس. تبنى مواقف شارون من السلطة الفلسطينية وردد مقولته (سلطة فاسدة ترعى الإرهاب يجب تغييرها). وتعامل معها وكأنها مجلس إدارة شركة يتعين على رئيسه وأعضائه الاستقالة، لأن الشركة فشلت في تحقيق أرباح وسجلت خسائر كبيرة..رفع بوش الغطاء الدولي عن عرفات ومنح شارون فرصة تصفية حساباته السياسية والشخصية القديمة والجديدة. وانذر الشعب الفلسطيني بالتجويع ووقف المساعدات وما هو أخطر وأعظم إذا لم يتخلى عن السلطة وأعاد انتخاب عرفات.
ورغم وضوح نص الخطاب، باللغتين الإنجليزية والعربية، أخطأت قيادة السلطة في قراءة “رؤية” بوش وتعلقت بأوهام متخيلة لم يتضمنها الخطاب. وحاول بعض أركانها تخريج مبدأ تغيير القيادة الفلسطينية الذي بنيت عليه “خطة بوش” بخداع النفس، وقالوا بوش لم يقصد تغيير عرفات ولم يذكره بالاسم..! وزاد في الطين بلة، اعتبار السلطة الأفكار التي وردت في الخطاب (إسهاما جديا لدفع عملية السلام إلى الأمام). وارتكبت خطأ آخر مزدوجا في التعامل معه؛ تسرعت وسبقت جميع الدول العربية والأوروبية، دون مبرر، في التعليق على الخطاب وكان تعليقها باهتا ودفاعها عن نفسها وحقوق شعبها مرتبكا ضعيفا. و”بلعت” الإهانة التي وجهت إليها وصمتت على التهم الكبيرة التي تضمنها الخطاب وضمنها اتهامها برعاية الإرهاب واتهام أعضائها والمجتمع الفلسطيني بالفساد.
ولا يستطيع أيا من أركان السلطة إنكار أن تعقيب الأمين العام للأمم المتحدة “كوفي أنان”، ووزيرة الخارجية السويدية وبعض زعماء الدول الأوروبية ويوسي بيلين وقادة حركة “ميرتس” الإسرائيلية، على الخطاب، كان أكثر توازنا من تصريح الناطق الرسمي للسلطة. وكانوا أجرأ وأوضح في نقد “رؤية” بوش، المتجبرة والمدمرة للسلام في المنطقة، من وزراء السلطة الذين جمّلوا الخطاب ومدحوا صاحبه في الفضائيات العربية.
والتفسير الوحيد لترحيب السلطة الفلسطينية بالخطاب هو ارتباكها بعد الصدمة القوية التي تلقتها أثناء سماع الخطاب، وفقدت قدرة الاعتراض على ما يهدد المصالح الوطنية الفلسطينية العليا ويهدد ووجودها. وتصور أركانها أن التحفظ على الرؤية” وإبداء الملاحظات أفكارها الخطرة، يزيد في عدوانية إدارة بوش، وأن إبداء المرونة وتجاهل مساوئها يخفف الحكم الظالم ويمتص حدة الهجوم. ويكسب السلطة بعض الوقت بانتظار الفرج من عند الله وتدبر الأمر مع الأشقاء. وكأن موقف بوش من السلطة تكتيكي يمكن تعديله بتصريح مرن.
إلى ذلك، جاءت وقائع الحياة وأكدت أن حركة خفض الجناح التي قامت بها السلطة وانحنائها أمام العاصفة، لم يخفف حدة الهجوم الأمريكي. وأضعف قدرتها على تفعيل الموقف العربي والدولي وموقف قوى السلام في إسرائيل في صد الهجوم المدمر للسلام. وقال الرئيس مبارك “لا يمكن لأحد أن يكون ملكيا أكثر من الملك”. وأحدث موقف السلطة المرتبك صدمة في الشارع الفلسطيني وأربكه. وزاد إحباطه وتعززت شكوكه في قدرة السلطة على إدارة المعركة السياسية القاسية القادمة بنجاح. وشجع خطاب بوش ورد السلطة والعرب الجنرال شارون وأركانه على التصلب، وتصعيد أعمالهم العدوانية ضد السلطة وأجهزتها المدنية والأمنية، وزادوا في ضغوطهم الأمنية والاقتصادية والمعنوية على الناس في الضفة وقطاع غزة.
أعتقد أن “رؤية” الرئيس بوش دفنت عملية السلام ودفنت معها الإتفاقات التي انبثقت منها، وخطابه ليس أقل من خطبة وداع لهذه العملية. واعتماد سياسة المجاملة ومبدأ التفسير بالتمني في قراءة “الرؤية” وقراءة تصريحات بوش في مؤتمر الثماني في كندا وتصريحات وزير خارجيته “باول” الأخيرة..الخ تضر ولا تنفع، ولا يعيد الحياة للعملية السلمية التي بنى عليها العرب والفلسطينيون استراتيجيتهم منذ مطلع العقد الأخير من القرن الماضي. ولا يقلص في حجم الأخطار المباشرة التي تحملها رؤية “بوش” على القضية الفلسطينية وعلى وجود السلطة، وعلى أمن سوريا ولبنان واستقرار المنطقة. وذكر بوش الدولة الفلسطينية والقدس واللاجئين وحدود 1967، في الخطاب، لا يستحق التطبيل والتزمير الذي لقيه. خصوصا أنه نسي والأدق تناسى، أن زوال الاحتلال هو القاعدة الأساسية لبناء الدولة الفلسطينية، وقرارات الشرعية الدولية الأساس الصالح لحل مشاكل الحدود والقدس واللاجئين
وأخطر ما تضمنه خطاب بوش يكمن في إقفال كل الطرق أمام استئناف العملية السلمية إلى إشعار آخر: ألغى فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط وسايرته أوروبا في ذلك. نسف مبدأ التوازي في الحركة نحو حل النزاع الذي طرحه وزير خارجيته “باول” ومدير الاستخبارات المركزية “جورج تنيت” ومساعد وزير الخارجية “بيرنز”، على القيادة الفلسطينية. واقترحوا العمل في ثلاث مسارات متوازية في وقت واحد: مسار إصلاح أوضاع السلطة، ومسار تحقيق الأمن على الأرض للجانبين، ومسار المفاوضات السياسية. واعتمد بوش مبدأ التوالي “الشاروني”: إنجاز إصلاح السلطة وتغيير قيادتها، وتحقيق الأمن الشامل والقضاء الكلي على الإرهاب حسب مفهوم شارون.. وبعد استكمال المطلوب في هذين المسارين،يتم الانتقال إلى المسار السياسي. باختصار كان الفلسطينيون أمام طلب شارون سبعة أيام هدوء، فصاروا حسب رؤية بوش أمام سبعة شهور قبل وصول الانتخابات الفلسطينية وقد يصبحون أمام سبع سنوات إذا رشح عرفات نفسه وفاز فيها..
ولم يكتفي بوش بالحديث العام في هذا المبدأ، ودخل في تفاصيل تطبيقه في مجال الانسحاب والاستيطان وقيام الدولة. وقال؛ (عندما يتوقف العنف يصبح مطلوبا وقف النشاط الاستيطاني والسماح للفلسطينيين بحرية الحركة ووضع المستحقات المالية بيد نظيفة شفافة). وبشأن الدولة الفلسطينية؛ صنع لها ممرا إجباريا وألزم الفلسطينيين اجتيازه محطة بعد أخرى. الأولى، مكافحة الإرهاب، ونسي أن شارون دمر أجهزة الأمن الفلسطينية وباتت السلطة عاجزة عن وصول هذه المحطة وعبورها بنجاح دون مساعدة خارجية. يليها محطة إجراء انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية حدد نتيجتها سلفا، ولم يقل كيف يمكن أن تجري بالمواصفات التي طلبها في ظل وجود جيش الاحتلال في شوارع وأزقة المدن والمخيمات.
أعتقد أن خطاب بوش نقل المنطقة إلى مرحلة جديدة. ويخطئ من يعتقد أن في الأفق القريب أنباء عن تجديد عملية سلام أو ميلاد عملية بديلة. وإذا كانت الاعتبارات الأمريكية الداخلية والمصالح الحزبية والانتخابية دفعت بوش إلى طرح “رؤية” منحازة فهذه الاعتبارات وتلك المصالح ستزداد في الشهور القادمة مع اقتراب موعد انتخابات مجلسي الشيوخ والكونغرس أواخر العام الجاري وسوف تكبر أكثر وتصبح أكثر إلحاحية في العام القادم حيث يبدأ بوش باستهلالك النصف الثاني من ولايته والتحضير لتجديدها.
في كل الأحوال هناك حاجة ملحة إلى مراجعة عربية جريئة ينبثق عنها خطة عمل جديدة واقعية، تعتمد تقليص حجم الخسائر كأساس وليس تحقيق مكاسب جديدة. تتعالى على اليأس والإحباط الذي خلقه خطاب بوش وتستبق تدهور الوضع نحو الأسوأ. فالرؤية الأمريكية، والأوضاع العربية والدولية وفي إسرائيل لا تمكن العرب والفلسطينيين تحقيق مكاسب قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة. وإذا كان لا قدرة للعرب على الحرب، فليس من مصلحة أحد الدخول في معركة كسر عظم مع الإدارة الأمريكية، خاصة أن نتيجة هذه المعركة محسومة سلفا. وفي هذا السياق لم أفهم مغزى تأخير القيادة الفلسطينية موعد إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية إلى كانون الثاني عام 2003. أي بعد أكثر من ستة أشهر. خاصة أن التأخير يضعف قيمة هذه الخطوة محليا وإقليميا ودوليا، ويؤجل استخدامها كورقة رابحة في امتصاص الهجوم الأمريكي الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ومطالبة إدارة بوش وروسيا ودول الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة التدخل فورا لإنهاء احتلال المدن الفلسطينية وإرسال قوات دولية أو متعددة الجنسية حتى تبدأ العملية الانتخابية وتأخذ مجراها الطبيعي. خاصة أن وجود هذه القوات صار المخرج الوحيد لوقف أعمال القتل والتدمير.
ويخطئ من يعتقد أن الوقت يجري في المدى المباشر والقريب في صالح الفلسطينيين، أو أن ليس هناك ما هو أسوء من الحال الذي يعيشها الناس في الضفة والقطاع.