عرفات بين سندان المجلس التشريعي ومطرقة المستوزرين

بقلم ممدوح نوفل في 19/10/2002

تعيش الساحة الفلسطينية هذه الأيام، موجة جديدة قوية من النقاش الداخلي والعلني حول الحكومة والانتخابات والإصلاح والتجديد والتغيير. ويطغى حديث تشكيل الحكومة في لقاءات الأحزاب والشخصيات ونشاط التكتلات داخل المجلس التشريعي وخارجه على ما عداه من مسائل وطنية كبرى ملحة. وكان أغلبية أعضاء المجلس التشريعي اعترضوا في تموز على تشكيلة الحكومة النهائية التي اختارها عرفات ، ووضعوا الوزراء أمام احد خيارين إما الاستقالة قبل نيل الثقة أو مواجهة حجب ثقة أكيد، وتحمل تبعات ذلك في المستويين الداخلي والخارجي.
واختار عرفات الخيار الأول، على مضض، باعتباره الأقل ضررا، وقبل استقالة الحكومة قبل عرضها على التصويت بساعات. وطلب من المجلس منحه المهلة القانونية المحددة وتعهد بتقديم تشكيلة جديدة تنسجم بصورة وأخرى مع رغبة أغلبية المجلس وتتلخص في : أن لا يتجاوز عدد الوزراء تسعة عشر وزيرا حسب نص النظام الأساسي الذي صادق عليه عرفات، تغيير واسع في الوجوه بحيث يخرج من الوزارة من مضى على وجودهم فيها أكثر من 8 سنوات، أن لا يتم الجمع بين الوزارة وأي وظيفة أخرى مركزية وبخاصة عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة العليا لشئون المفاوضات مع إسرائيل، وان تضم الحكومة نخبة من ذوي الكفاءات والاختصاص والخبرة اللازمة لتطوير مجالات عمل الوزارات وتمكينها من النهوض بمهامها الوطنية.
وبعد استقالة الحكومة، والأصح إسقاطها، من قبل “البرلمان” شعر معارضو الحكومة في المجلس التشريعي بنشوة كبيرة. وتعززت ثقة المجلس بنفسه ـ هيئة وأفراد ـ واكتشف بعد ست سنوات من انتخابه عام 1996، أنه يمتلك قوة مؤثرة في الحياة السياسية الفلسطينية، وقادر على القيام بأعمال تشريعية كبيرة بما فيها إسقاط الحكومة التي يشكلها “أبو عمار” رمز الحركة الوطنية الفلسطينية وقائدها منذ قرابة أربعين عام. ورفع بعض أعضاء المجلس سقف مطالبهم وطالبوا باستحداث منصب رئيس وزراء، ولقي موقفهم هذا وشروط تشكيل الحكومة استحسانا في أوساط فلسطينية واسعة، وتعزز موقع المجلس التشريعي في الشارع الفلسطيني، بعد أن فقد ثقة الناخبين وأداروا له ظهرهم وأوقفوا اكتراثهم بالوزارة والوزراء وبالمجلس نفسه. ولم يتأثر الناس بترحيب الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي. ولم يغيروا موقفهم بسبب ثناء بيريس وبن اليعازر، زعماء حزب العمل في حكومة شارون، على دور المجلس. ولم ينسوا أنهما لم يفلحا في إقناع شارون بالسماح لأعضاء في التشريعي من قطاع غزة الوصول إلى مقر المجلس في مدينة رام الله للمشاركة في مناقشة هذه القضية “الحكومة” وسواها من القضايا السياسية والوطنية الداخلية الأخرى.
وبصرف النظر عن النوايا، زادت القوى الإقليمية والدولية المعنية بقضايا المنطقة اهتمامها بالمجلس التشريعي وتوجهاته، وزاد رهانها على دوره في “إصلاح” أوضاع السلطة وتطهيرها من “الفساد والفاسدين”. ووسعت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي الاتصال بأعضاء المجلس بأمل التأثير في مواقفهم وبخاصة في مسألة تشكيل الحكومة وإصلاح النظام الفلسطيني.
إلى ذلك، شرع عرفات في حينه في إجراء المشاورات والاتصالات اللازمة لتشكيل حكومة جديدة بديلة، وكان يأمل الانتهاء من تشكيلها بسرعة خاصة انه يعتبرها ورشة ثانوية في ظل أعمال الحصار والقتل والدمار والتجويع الذي يمارسه جيش الاحتلال. وراح الجميع يراقبون الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية حول تشكيل الحكومة الجديدة وقضايا سياسية وتنظيمية وقانونية.

ولم يرق لشارون تطور النظرة الدولية لدور المجلس التشريعي والتعامل معه من منطلق التقدير والمراهنة على دوره. واعتبر تطور عمل المجلس وتطور الموقف الدولي منه عقبة كبيرة في طريق استكمال مشروع تدمير السلطة الفلسطينية الذي تبناه وعمل تنفيذه منذ استلامه سدة الحكم في شباط 2001، وسعى إلى استبدالها بسلطة حكم إداري ذاتي عميلة تأتمر بأوامره.
وصمم شارون قطع الطريق على المجلس التشريعي قبل أن يقوى عوده ويربك علاقة إسرائيل الخارجية خاصة مع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. وراح يتحين الفرصة لمنع المجلس التشريعي من متابعة دوره القيادي الجديد في عملية الإصلاح المطلوبة فلسطينيا ودوليا. وعمل على استدراج الفلسطينيين إلى ميدان العمل العسكري بأمل خلق الذريعة لحركته وتحقيق هدفه. وأرسل طائراته ودباباته إلى قطاع غزة وقتلت وجرحت أعدادا كبيرة من الفلسطينين. وردت حماس كما كان يتوقع ويتمنى شارون، ونفذت “كتائب القسام” عملية انتحارية 19يوم أيلول/ سبتمبر الماضي وسط تل أبيب، قتل وجرح فيها عددا كبيرا من المدنيين. واستغل شارون العملية وأمر قواته في نفس اليوم بالهجوم على مقر عرفات وتدميره. ونفذ الجيش الأوامر وقام بالأعمال التي يعرفها الجميع، ولاحق كشفت وسائل الإعلام عن تدخل دولي لوقف “إبعاد عرفات إلى صحراء بلد عربي لا تربطه بإسرائيل معاهدة سلام”.
ويسجل “للبلدوزر” شارون أنه بجانب نجاحه في تدمير معظم مباني “المقاطعة” باستثناء مكتب عرفات، نجح في قطع طريق الإصلاحات التي نادى بها المجلس التشريعي، وشل دوره ودور المؤسسات الفلسطينية كافة. وطوى الفلسطينيون في السلطتين التشريعية والتنفيذية، في تلك الفترة، النقاش حول تشكيل الحكومة ، وتعذر على عرفات استكمال المشاورات. وتبخر الحديث عن الإصلاح والتجديد والتغيير وصار في نظر الفلسطينيين أشبه بنكتة تقال في مجالس العزاء. وضعف آمال القوى الدولية بتطور دور المجلس التشريعي، وانشغل الجميع في معالجة ذيول عملية حماس ومنع شارون من قتل عرفات أو إبعاده.
وشعرت الإدارة الأمريكية أن عملية شارون ومحاصرة مقر عرفات يقفل طريق إصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية الذي تطالبه به ويحرجها مع العرب ويعرقل جهودها لحشد المواقف في عملية التحضير لضرب العراق. وأسرع بوش وأركانه في إصدار الأوامر لشارون بوقف تدمير مقر عرفات والانسحاب فورا من “المقاطعة” ومحيطها، والامتناع عن القيام بأي أعمال تشوش على مهمتهم المركزية في الشرق الوسط والمتمثلة بالإطاحة بنظام صدام. والتزم شارون بأوامر البيت الأبيض ونفذ ما طلب منه. وزادت قناعة الفلسطينيين والعرب أن بامكان ادارة بوش إرغام شارون بما هو أكبر من ذلك بكثير. وتم القفز عن تعيين رئيس الوزراء
ولم يتأخر الوقت كثيرا حتى استأنف عرفات مشاوراته لتشكيل الحكومة، وتصدر موضوعها اهتمام القوى الفلسطينية وظهر صراعها على السلطة جليا أمام الجميع. وتم القفز عن أزمة الانتفاضة، ومواجهة احتلال الجيش الإسرائيلي جميع مدن الضفة الغربية والحصار المضروب على الناس، وحالة البطالة والجوع التي تعم المجتمع الفلسطيني. وصارت “قصة الحكومة الجديدة” الشغل الشاغل للنخب الفلسطينية ـ حزبيين ومستقلين. البعض يطمح في دخولها وآخرون يسعون للإطاحة بهذا الوزير أو ذاك منها واستبداله بآخر. وعدد لا بأس به من الوزراء القدامى يتمسكون بقوة بالمنصب. ورغم أن بعضهم يشغل وظائف أخرى هامة منذ سنين طويلة نراهم يبذلون جهودا جباره ويقومون بحيل ومناورات حزبية رخيصة من أجل البقاء في الوزارة. وهناك من يحاول توظيف القصة لإضعاف مكانة عرفات الوطنية وإظهار شكلا من التمرد على رغبته في اختيار الوزراء.
إلى ذلك استأنفت القوى والدولية متابعة هذه المسألة الفلسطينية الداخلية باهتمام شديد، ويبين اهتمامها تطور التدخل الخارجي في الشأن الفلسطيني، ولم يعد يتوقف عند حدود الرقابة على الصرف المالي، وإعادة بناء وتأهيل أجهزة الأمن، وصياغة القوانين واللوائح الداخلية وبخاصة قانون الانتخابات..الخ وشمل أيضا مسألة تشكيل الحكومة وإبداء الرأي بهذا المرشح أو ذاك.
ولم يبدل شارون حرفا في موقفه من السلطة ورئيسها منذ توليه الحكم في شباط 2001 بالسلطة، وظل يصفها ” سلطة فاسدة وغارقة في الإرهاب. ويتمسك شارون وأركانه من حزبي الليكود والعمل بتغيير السلطة ورئيسها، ويصرون على تشكيل حكومة فلسطينية جديدة حسب مقاساتهم الأمنية والسياسية. ويعارض شارون وأركان الليكود إجراء انتخابات فلسطينية رئاسية وتشريعية وبلدية، مطلع العام القادم. ويشترط إعادة صياغة قانون الانتخابات بحيث يستثنى أهل القدس من المشاركة فيها، علما أنهم شاركوا في انتخابات 1996. ويصر على عدم مشاركة عرفات في الانتخابات، ويفضل إلغاء هذا المستوى الانتخابي واستبداله بنظام شبيه بالنظام المتبع في إسرائيل، أي انتخاب رئيس الدولة من المجلس التشريعي وليس بانتخاب حرة مباشرة. ويربط فك الحصار المضروب على جميع مدن وقرى ومخيمات الضفة والعودة إلى طاولة المفاوضات، بتشكيل حكومة فلسطينية قادرة على محاربة ما يسميه إرهاب وإرهابيين. وبرغم ذلك يجد موقف شارون من الحكومة والانتخابات ومنع عرفات من المشاركة فيها تأييدا أمريكيا كاملا. وهذا التأييد شجعه على ارتكاب المجازر في قطاع غزة وأخرها في رفح. ويأمل شارون النجاح مرة اخرى في استدراج حماس وتكرار سيناريو تعطيل تشكيل الوزارة وارباك عمل المجلس التشريعي .
أظن أن هذه اللوحة تكفي القارئ تقدير حجم الضغوط التي يتعرض لها “عرفات” بشان تشكيل الحكومة. وهو يصفها بأنها أقسى من الضغط النفسي الذي تعرض له خلال فترات حصار مقرة، ويحاول التوفيق بين مطالب وحصص المستوزرين جماعات وأفراد. وفي سياق هذه “العجقة” تم القفز عن تعيين رئيس حكومة وتم ربط الموضوع بقيام الدولة. وإذا كان اعتذار حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية عن المشاركة في الحكومة أعفى عرفات من التفكير في سبل إرضائها، فهو لا يزال بين سندان المجلس التشريعي ومطرقة المستوزرين. ويقضي وقته في عقد اللقاءات الجماعية والفردية مع كوادر فتح والكتل و”المفاتيح” الانتخابية في المجلس التشريعي، ومع الفصائل الراغبة في المشاركة في الحكومة أو السماسرة لمشاركة آخرين. ويأمل عرفات أن ينتهي من هذه المهمة خلال أيام قليلة. وأجزم أنه لن يستطيع إرضاء الجميع، وأخشى أن يفشل عرفات في الحصول على ثقة المجلس التشريعي مرة أخرى، ويتكرر المشهد الذي شاهده العالم في تموز الماضي، ويظل النظام السياسي الفلسطيني مشغولا بقصة الحكومة في وقت يعرف جميع الوزراء القدامى والجدد أن دبابة إسرائيلية واحدة قادرة على منعهم من دخول مقر رئيس الحكومة للمشاركة في اجتماع مجلس الوزراء الفلسطيني…